التقت به في جبهات القتال، أحبّها وأحبته، ولكنه تزوج سواها وتزوجت سواه، وبعد ٦٠ عاماً التقته مجدداً واكتشفت أن جذوة الحب ما زالت مشتعلة. فتزوجته..
هذه ليست حكاية خيالية، ومع أنها تشبه في حبكتها رواية “الحب في زمن الكوليرا” للروائي ماركيز إلاّ أنها تكشف أن الواقع أغنى من الخيال، ففي رواية ماركيز ينتظر العاشقان أكثر من ثلاثين عاماً كي تلتقي الشفاه في تلك القبلة الموعودة، أما في الواقع فإن هذا اللقاء يحصل بعد ستين عاماً.
قرأت القصة في صفحة (الرثائيات) التي تنشرها الصحف الأجنبية وتختار عدداً من (المتوفين)، وليس من الضروري أن يكونوا من المشاهير، فتسرد باختصار سيرة حياتهم، وهذه السيَر تبدو غالباً أقرب إلى الملاحم.
بطلة القصة هي البريطانية روزالين سميث وقد ولدت عام ١٩.٩ وتطوعت في العام ١٩٣٦ مع ١٥٠ فتاة بريطانية للقتال مع (الفيلق الأممي) الذي شكله الجمهوريون في إسبانيا خلال الحرب الأهلية بينهم وبين الجنرال الفاشي (فرانكو)
تركت روز المدرسة وعمرها ١٥ سنة، ودرست الضرب على الآلة الطابعة والكتابة المختزلة في إحدى المدارس الليلية، ثم عملت سكرتيرة في لندن، قبل أن تنتقل لتعمل ممرضة ميدانية على جبهات القتال في اسبانيا. والدها المهندس وأمها معلمة المدرسة المثالية، كما تقول، لم يرحبا بقرارها، ولكنهما لم يشعرا بالمفاجأة، فقد كان كل منهما يحترم شخصيتي المستقلة.
في إسبانيا التحقت بصفوف الجمهوريين في فندق غرب مدريد، وحوّلت البار في الفندق إلى غرفة عمليات جراحية، وهناك التقت الطبيب (ريجينالد ساكسون)، وهو واحد من بين ٢٠٠٠ بريطاني خدموا في جيش الجمهوريين ضد فرانكو.
ثم انتقلت روز إلى أراغون، حيث كان القتال مستعراً بشدة، وشاركت في إقامة مستشفى من ثلاثة أكواخ خارج المدينة، تقول: “كان البرد قارصاً باستمرار، وعندما يتوقف المطر، كان سلاح الجو الإيطالي، حليف فرانكو، يمطرنا بآلاف القذائف”.
كان ساكستون مدير المستشفى، وقال عن تلك الفترة: “لقد أصبحنا أنا وهي شخصاً واحداً، ولكن الزواج كان يبدو مسألة صغيرة مقارنة بأحداث الحرب، ولم نتحدث عنه أبداً”.
أما روز، فقد كتبت في تقرير لها إلى اللجنة الطبية الإسبانية في لندن: أمرونا أن نحزم أغراضنا ونستعد للرحيل، ولكن الشاحنات لم تصل بسبب السيول، وبقينا مدة أسبوعين ونصف الأسبوع ننتظر الانتقال، ولم يكن هناك طعام، وكان كل واحد منا يحتفظ بقطعة صغيرة من الخبز تحت مخدته كي يقرضها قبل النوم، وكم كنت أحلم بأن أضع شيئاً فوقها.. وفي المساء وعلى ضوء الشموع كنا نستمع إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن ولحن غير مكتمل لشوبرت ومثله لهايدن، وكنا ندير إبرة الغرامفون مرات ومرات ونمتص تلك الموسيقا حتى آخر قطرة..
ثم تقول: اليوم حاولت الشاحنات الوصول إلينا، ولكننا كدنا نبكي عندما عجزت واضطرت أن تعود فارغة، مع ذلك، إن الجميع في غاية الشجاعة، فقد وضعنا المزيد من الشالات على أكتافنا قبل أن نذهب للنوم، بعد أن أعطينا البطانيات للمرضى.. و.. آه لقد بدأ القصف مجدداً”.
انتقلت روز إلى (قطالونيا) والتحقت مجدداً بجبهات القتال إلى أن قرر الجمهوريون في أكتوبر ١٩٣٨ حلّ الفيلق الدولي، فغادرت روز وتزوجت آلان روس وهو ميكانيكي، كان قد تطوع بدوره للقتال في إسبانيا. وانتقلا إلى موطنه في فانكوفر في كندا، وبسبب مطاردة “الحمر” في تلك الفترة، لم يستطع روس أن يجد عملاً، بينما عادت هي لتعمل سكرتيرة.
في الخمسينيات انتهت علاقة الزواج بين روز وروس، وتابعت حياتها، غير أن المفاجأة وقعت عام ١٩٩٦ عندما التقت بحبيبها السابق الطبيب ساكستون في احتفال خاص أقيم لأعضاء الفيلق الدولي في مدريد. وكان ساكستون قد تزوج، ولكن زوجته توفيت بعد سنتين من اللقاء، فالتحق بحبيبته في فانكوفر وتزوجا.
في ٢٠٠٢ تدهورت صحة ساكسون وانتقل الزوجان إلى بريطانيا، وشاركا في التظاهرات الداعمة للسلام، وكانا يعلقان على نافذة منزلهما بوستر كبيراً يقول: لا.. للحرب.
ساكستون توفي في عام ٢٠٠٤، وعادت روز إلى منزلها في فانكوفر والتحقت بعائلتها إلى أن رحلت يوم ٢٦ أكتوبر الماضي، عن ٩٩ عاماً.
حياة روزالين سميث لا تكشف فقط أن الواقع أغنى من الخيال بل تكشف أيضاً أن حياة كل إنسان هي ملحمة لا تحتاج بالضرورة إلى وفاة بطلها كي نرويها.
هذه ليست حكاية خيالية، ومع أنها تشبه في حبكتها رواية “الحب في زمن الكوليرا” للروائي ماركيز إلاّ أنها تكشف أن الواقع أغنى من الخيال، ففي رواية ماركيز ينتظر العاشقان أكثر من ثلاثين عاماً كي تلتقي الشفاه في تلك القبلة الموعودة، أما في الواقع فإن هذا اللقاء يحصل بعد ستين عاماً.
قرأت القصة في صفحة (الرثائيات) التي تنشرها الصحف الأجنبية وتختار عدداً من (المتوفين)، وليس من الضروري أن يكونوا من المشاهير، فتسرد باختصار سيرة حياتهم، وهذه السيَر تبدو غالباً أقرب إلى الملاحم.
بطلة القصة هي البريطانية روزالين سميث وقد ولدت عام ١٩.٩ وتطوعت في العام ١٩٣٦ مع ١٥٠ فتاة بريطانية للقتال مع (الفيلق الأممي) الذي شكله الجمهوريون في إسبانيا خلال الحرب الأهلية بينهم وبين الجنرال الفاشي (فرانكو)
تركت روز المدرسة وعمرها ١٥ سنة، ودرست الضرب على الآلة الطابعة والكتابة المختزلة في إحدى المدارس الليلية، ثم عملت سكرتيرة في لندن، قبل أن تنتقل لتعمل ممرضة ميدانية على جبهات القتال في اسبانيا. والدها المهندس وأمها معلمة المدرسة المثالية، كما تقول، لم يرحبا بقرارها، ولكنهما لم يشعرا بالمفاجأة، فقد كان كل منهما يحترم شخصيتي المستقلة.
في إسبانيا التحقت بصفوف الجمهوريين في فندق غرب مدريد، وحوّلت البار في الفندق إلى غرفة عمليات جراحية، وهناك التقت الطبيب (ريجينالد ساكسون)، وهو واحد من بين ٢٠٠٠ بريطاني خدموا في جيش الجمهوريين ضد فرانكو.
ثم انتقلت روز إلى أراغون، حيث كان القتال مستعراً بشدة، وشاركت في إقامة مستشفى من ثلاثة أكواخ خارج المدينة، تقول: “كان البرد قارصاً باستمرار، وعندما يتوقف المطر، كان سلاح الجو الإيطالي، حليف فرانكو، يمطرنا بآلاف القذائف”.
كان ساكستون مدير المستشفى، وقال عن تلك الفترة: “لقد أصبحنا أنا وهي شخصاً واحداً، ولكن الزواج كان يبدو مسألة صغيرة مقارنة بأحداث الحرب، ولم نتحدث عنه أبداً”.
أما روز، فقد كتبت في تقرير لها إلى اللجنة الطبية الإسبانية في لندن: أمرونا أن نحزم أغراضنا ونستعد للرحيل، ولكن الشاحنات لم تصل بسبب السيول، وبقينا مدة أسبوعين ونصف الأسبوع ننتظر الانتقال، ولم يكن هناك طعام، وكان كل واحد منا يحتفظ بقطعة صغيرة من الخبز تحت مخدته كي يقرضها قبل النوم، وكم كنت أحلم بأن أضع شيئاً فوقها.. وفي المساء وعلى ضوء الشموع كنا نستمع إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن ولحن غير مكتمل لشوبرت ومثله لهايدن، وكنا ندير إبرة الغرامفون مرات ومرات ونمتص تلك الموسيقا حتى آخر قطرة..
ثم تقول: اليوم حاولت الشاحنات الوصول إلينا، ولكننا كدنا نبكي عندما عجزت واضطرت أن تعود فارغة، مع ذلك، إن الجميع في غاية الشجاعة، فقد وضعنا المزيد من الشالات على أكتافنا قبل أن نذهب للنوم، بعد أن أعطينا البطانيات للمرضى.. و.. آه لقد بدأ القصف مجدداً”.
انتقلت روز إلى (قطالونيا) والتحقت مجدداً بجبهات القتال إلى أن قرر الجمهوريون في أكتوبر ١٩٣٨ حلّ الفيلق الدولي، فغادرت روز وتزوجت آلان روس وهو ميكانيكي، كان قد تطوع بدوره للقتال في إسبانيا. وانتقلا إلى موطنه في فانكوفر في كندا، وبسبب مطاردة “الحمر” في تلك الفترة، لم يستطع روس أن يجد عملاً، بينما عادت هي لتعمل سكرتيرة.
في الخمسينيات انتهت علاقة الزواج بين روز وروس، وتابعت حياتها، غير أن المفاجأة وقعت عام ١٩٩٦ عندما التقت بحبيبها السابق الطبيب ساكستون في احتفال خاص أقيم لأعضاء الفيلق الدولي في مدريد. وكان ساكستون قد تزوج، ولكن زوجته توفيت بعد سنتين من اللقاء، فالتحق بحبيبته في فانكوفر وتزوجا.
في ٢٠٠٢ تدهورت صحة ساكسون وانتقل الزوجان إلى بريطانيا، وشاركا في التظاهرات الداعمة للسلام، وكانا يعلقان على نافذة منزلهما بوستر كبيراً يقول: لا.. للحرب.
ساكستون توفي في عام ٢٠٠٤، وعادت روز إلى منزلها في فانكوفر والتحقت بعائلتها إلى أن رحلت يوم ٢٦ أكتوبر الماضي، عن ٩٩ عاماً.
حياة روزالين سميث لا تكشف فقط أن الواقع أغنى من الخيال بل تكشف أيضاً أن حياة كل إنسان هي ملحمة لا تحتاج بالضرورة إلى وفاة بطلها كي نرويها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق