“ثوار الفاربوندو مارتي يهاجمون الفندق”، كانت العبارة تنتقل مثل النار في الهشيم من غرفة إلى أخرى، وكان المصورون والإعلاميون يندفعون إلى النوافذ والشرفات، يحاولون التقاط المشهد بالصوت والصورة. وعلى رغم أن خيوط الفجر بدأت تطل من وراء الجبل، إلاّ أن صوت إطلاق النار وحده كان يؤكد هجوم الثوار الذين كانوا يختفون كالأشباح خلف أشجار الغابة المطلّة على الفندق.
سمعت صوت صديقي “جيم” مراسل مجلة “تايم” الأمريكية يصرخ من الشرفة المجاورة بالإنكليزية: “اقتربوا أكثر، إننا لا نراكم”. وكأنما كانت العبارة كلمة السر التقطها الثوار، وبدأوا يظهرون من خلف الأشجار، ملثمين، يحملون بنادق الكلاشينكوف، ويصرخون بالإسبانية “عاشت الثورة”.
لم يستغرق المشهد أكثر من دقائق، اختفى المقاتلون بعدها وكأنما ابتلعتهم غابة الأشجار الكثيفة.
كنا مجموعة من الإعلاميين، انتقلنا من واشنطن، مع فريق من وزارة الخارجية الأمريكية، لتغطية الانتخابات في السلفادور، وهي أول انتخابات كانت تتم، بعد أن قرر الجنرالات التنازل عن السلطة للمدنيين، بقرار من واشنطن.
السلفادور في منتصف الثمانينات من القرن الماضي ، كانت تعيش حالة حرب: ثوار “الفاربوندو مارتي” اليساريون من ناحية، والعسكر من ناحية ثانية، وكانت “فرق الموت” التي شكلها الجيش تنشر الرعب في طول البلاد وعرضها. أما أبرز الجرائم التي ارتكبتها، فكانت ذبح خمس راهبات أمريكيات انتقاماً من الكنيسة التي كانت تناصر الثوار، وكان المسؤول عن هذه الفرق هو الضابط “روبرتو دي أوبيسون” وهو أبرز المرشحين في الانتخابات، يقابلة مرشح الإدارة الأمريكية “نابوليون ديوراتيه” الذي أعلن أنه في حال نجاحه سوف يقوم بمفاوضة الثوار لإنهاء الحرب الأهلية.
وفي الليلة الأولى لوصولنا إلى العاصمة سان سلفادور، هاجم الثوار الفندق الذي نقيم فيه. وبالطبع كان الهجوم إعلامياً لإثبات قدرة الثورة على اقتحام العاصمة، بعد أن وطدّت سلطتها في الريف.
في يوم الانتخابات جاء صديقي جيم، وهو شاب يشتعل حماسة، أمسك بيدي وكاد يجّرني وراءه، قال: “جهّز الكاميرا، سوف نصعد إلى الطابق السابع. هناك مفاجأة”.
خرجنا من المصعد، بينما اندفع جيم يساراً، وأنا خلفه، ووقف أمام بوّابة كتب عليها بالإنكليزية “قاعة الاجتماعات”، فتح الباب بهدوء، وإذا أمامنا في صدر القاعة السناتور الجمهوري جيسي هيلمز، كان هيلمز رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، وأشهر “المحافظين” في أمريكا، و”عدو الأفارقة الأمريكيين رقم واحد”.
قبل أن يرفع جيم الكاميرا، اندفع أحد الحراس وأوقفه، إلاّ أن السناتور صرخ بالحارس:” أتركه، إننا لا نخجل بما نفعله”. وسأله جيم: “وما الذي تفعلونه أيها السيد السناتور؟” فرد هيلمز: “إنني أدعم صديقي الكولونيل روبرتو دي أوبيسون” وربت على كتف الرجل الجالس إلى جواره، عندها لم أتمالك نفسي، قلت: أليس هو قاتل الراهبات؟ ضحك السناتور وقال: دعك من أكاذيب الشيوعيين.
قبل أيام قرأت نبأ وفاة السناتور “القوي” جيسي هيلمز، بعد ٣٠ عاماً أمضاها في الكونغرس وهو يجهر بعدائه للأفارقة الأمريكيين.
وإلى جانب نعيه ظهر خبر تفوّق المرشح الديمقراطي “الأسمر” باراك حسين أوباما على خصمه الجمهوري جون ماكين في آخر استفتاء شعبي حول المرشحين لدخول البيت الأبيض.
إذن، جيسي هيلمز.. وداعاً؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق