“أتصدق أنني كنت مكلفاً أن أقتل أخواتي الثلاث وابنة عمي تنفيذاً لأوامر أبي” قالها أبو عرفات، وهو يرشف على مهل فنجاناً من الشاي، أعدته أخته الكبيرة “أمينة”، بينما كنا نجلس في حديقة منزله، نتابع باسترخاء تغريد مجموعة من الطيور وهي تلتقط الحبوب الصغيرة التي ألقتها والدته على أرض الحديقة.
التقيت “أبو عرفات” في العام ١٩٨٢، كان يسكن إلى جواري في ضاحية “فولز تشيرتش” القريبة من العاصمة الأمريكية واشنطن، ويعيش في منزل من طابقين مع أمه وأخته وزوجها وأولادهما الثلاثة، قال عندما التقيته أول مرة: “لست متزوجاً ولكن يمكن أن تناديني أبا عرفات”، وملأت ابتسامة عريضة وجهه عندما أضاف: “لو تعرف كم أحبه هذا المناضل” في إشارة إلى قائد الثورة الفلسطينية في ذلك الوقت ياسر عرفات.
لم يكن أبوعرفات قد تجاوز الثلاثين من عمره، وعندما اجتاحت قوات إسرائيل بيروت في العام ١٩٨٢ كنا نترافق إلى المشاركة في التظاهرات أمام البيت الأبيض، كانت حنجرته أقرب إلى مدفع عملاق وهو يطلق الهتاف: “داون داون بيغن ريغان”، ولكن بعد دقائق كان يتوقف عن الهتاف بالإنكليزي ويبدأ يشتم الرئيس وسلالته بالعربية.
كان “أبو عرفات” حارساً في بنك في واشنطن، وأخته ممرضة في إحدى المستشفيات، وزوجها يعمل في شركة لإصلاح الأدوات الصحية، أما أمه فكانت تبيع في منزلها مشغولات يدوية يحضرها أقرباء لها من غزة، وتوطدت العلاقة بيننا، فقد كان سخياً في تقديم الخدمات، باعتبار أننا نجهل الحي الذي انتقلنا إليه.
في تلك الأمسية روى أبو عرفات ما أطلق علية اسم “المعجزة”، قال: “حدث ذلك في العام ١٩٦٧، الإسرائيليون حاصروا غزة مدة شهر ثم اقتحموها، لم يكن عمري يتجاوز ١٥ سنة، وكان والدي وعمي قد التحقا بقوات محلية انضمت إلى مجموعة ضباط مصريين، أخذوا يناوشون العدو على حدود المدينة. قال لي والدي قبل أن يغادر ليلاً: الإسرائيلي سوف يفتش البيوت والله وحده يعرف ما الذي سيفعله، أنت ولدي الوحيد، وشرف الأسرة معلّق في رقبتك، احذر أن تدع الإسرائيلي يقترب من إحدى أخواتك. لن نغادر الأرض ولن نخسر العرض”. ثم أخرج مسدساً “أبو بكرة” وناولني إياه، قال: “فيه ست رصاصات، وأنت تعرف كيف تستعمله”. وهززت رأسي ايجاباً، تناول المسدس من يدي، وقال: “اضغط الفوهة على الرأس هكذا” ودفعه إلى الناحية اليمنى من صدغه، وعندما لاحظ حيرتي سأل: “هل تفهم ما أقصده؟” قلت: “سأطلق النار على أول جندي يدخل المنزل”. وقاطعني بحزم: “هل ستوقف زحف الجنود الإسرائيليين بمسدس؟ إن لديك ثلاث أخوات وابنة عمك وأمك، أمك لا خوف عليها فهي دائماً كانت قادرة على أن تحمي شرفها، أنت لا تحتاج إلى أكثر من أربع رصاصات، وتبقى عندك رصاصتان للاحتياط، هل فهمت الآن ما أريدك أن تفعله؟
يتوقف “أبو عرفات” لحظات ليشرد فيها نظره إلى البعيد، ثم يتابع: “كان أبي يأمرني أن أقتل أخواتي وابنة عمي.. وشعرت بالدم يتجمد في عروقي فأنا لا أستطيع مخالفته”. يضيف: “جمعت أخواتي وابنة عمي في سقيفة فوق حجرة المطبخ نستعملها لتخزين المؤونة، بينما وقفت أمي عند نافذة قريبة من الباب، تراقب ما يجري في الشارع، مر الوقت كأنه دهور، ولم يظهر أي جندي، وفي الأيام التالية، استدعوا الرجال والشباب حتى سن ١٦ سنة، أنا بقيت في المنزل، ومسدسي جاهز، ولكنهم لم يدخلوا البيوت”.
وينهي أبو عرفات روايته قائلاً: “سأعود إلي غزة وأحقق حلمي وأتزوج ابنة عمي و..ربما أقتلها حباً”.
غادرت أمريكا ثم عدت إليها في العام ١٩٩٥ لدراسة السيناريو، زرت منزل “أبو عرفات” وجدت أخته أمينة، قالت إنها أنجبت ثلاثة أطفال آخرين، سألتها: “ولكن أين أبو عرفات؟” ابتسمت وهي تجيب: “عاد إلى غزة وتزوج ابنة عمه وفتح سوبر ماركت وأنجب عرفات ومعه ثلاث بنات”.
في العام الماضي تلقت ابنتي وهي تتابع دراستها في أمريكا “إيميل” من أمينة تخبرها أن “أبو عرفات” اعتقل مع قيادات في فتح، وأنه تم إغلاق “السوبرماركت”.
وقبل أيام كنت أتابع على شاشات التلفزيون وفي الصحف أنباء قصف السراي الحكومي في غزة حيث يحتجز المعتقلون، ولم أشاهد “أبو عرفات” ولا أعرف ما إذا كانت المعجزة ما زالت ترافقه، ما أعرفه هو أن الحلم الفلسطيني يتمزق، وليس على أيدي الصهاينة فهم قد عجزوا عن هذا منذ قيام دولتهم رغم أنهم لم يتوقفوا يوماً عن القتل وعلى كافة الجبهات: من دير ياسين في فلسطين إلى بحرالبقر في مصر إلى قانا في لبنان ثم عودة الى مجزرة مدرسة اليونيسكو في غزة . .والفلسطيني وحده هو القادر على استعادة الحلم الفلسطيني .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق