مجلة العربي/الجمعة 1 اكتوبر 1993 15/4/1414هـ / العدد419
الموروث الشعبي في الغرب تحول إلى صناعة وعلم يدخل في ترسانة أسلحة الحرب النفسية. أما في عالمنا العربي فإن حروبا طاحنة تدور بين العلم الحديث والموروث الشعبي، ويرفض كل منهما الآخر بالمطلق، والخلل واضح، فالشارع العربي الذي وقف إلى جانب صدام حسين باعتباره نموذجا للنظام العلماني ورائدا لعلوم العصر هو الشارع نفسه الذي أطلق خرافة ظهور وجه صدام على سطح القمر، وهذا الشارع أكد في الحالتين أنه يملك ناصية الحقيقة المطلقة.
إن العلم الحديث سجين الجامعات العصرية، لايتعدى أروقتها إلى الحياة العمومية، ومن منا لا يعرف ذلك الانفصام العجيب الذي يبديه المتخرج من الجامعات، فهو موضوعي فيما يتعلق بصناعته وصول في كل ماعداها... إن النظام الفكري المتفشى مازال يتضمن الاعتقاد بالسحر وأعمال الجن. (المفكر المغربي عبدالله العروي في كتاب... العرب والفكر التاريخي...).
يقول الشيخ: شاهدت الرجل يدخل من "أست " البعير ويخرج من فمه، ثم شاهدت الرجل يدخل من فم البعير ويخرج من أسته، فعلمت أنه ساحر، ألقيت عليه الرقية، فإذا بالسحر ينكشف، وإذا بالرجل يدخل ويخرج في بين ساقي البعير (مقطع من شريط كاسيت يباع في الاسواق العربية).
يقول الشيخ فهد محمد الداوود إن العين (الحسد) حق، وأعرف كثيرين تعرضوا لكوارث: طالب جامعي أعرفه جيدا يدرس في كلية عملية وبقيت له ساعات قليلة على التخرج، فجأة لم يعد يطيق الذهاب إلى الكلية أو النظر في كتاب... وجاءني يبحث عن الحل، قرأت عليه آيات القرآن الكريم، وبعد ضياع سنتين من عمره ودراسة أمضاها في العيادات النفسية عاد إليه استقراره بعد زوال العين الحاسدة... ويقول سعد-ع- إنه متزوج منذ ثلاث سنوات مع إيقاف التنفيذ، فقد أصابته عين حاقدة جعلته لا يقرب زوجته، والحمد لله بعد جلسات القراءة عاد طبيعيا وهو نادم على ضياع الوقت في عيادات الأطباء ويدعو بالخير للشيخ الذي كان سبب الشفاء.. ويقول صالح البنيان: كنت قد اشتريت سيارة جديدة والتقيت مع شخص أبدى إعجابه الشديد بها، وفوجئت بالسيارة تتوقف، وحملتها إلى ورشة ثم إلى ورشة ثم إلى الوكالة، وأنفقت عليها مبلغا باهظا، لكن السيارة تسير ثم تتوقف فجأة، ولم أجد مفرا من بيعها... (من تحقيق لمجلة " ا لدعوة " السعودية 8 أبريل- نيسان 1993).
الدكتور (........) يكشف عن مستقبلك، يفك عنك "السحر"، في نشاطاتك العاطفية والعملية. هاتف (.......) (من صفحة الإعلانات في صحيفة خليجية تصدر باللغة الإنجليزية).
كنت أطالع القمر بالصدفة، وفجأة ظهر وجه صدام حسين، لم أصدق عيني وأصبت بالذهول، أيقظت جاراتي ونظرنا جميعا، كان وجه صدام يغطي القمر كله. وكان يبتسم ... وقعت المعجزة وعرفنا أنه سوف ينتصر (من رواية تداولتها وسائل الإعلام العراقية والأردنية أثناء حرب تحرير الكويت نقلا عن صحيفة تصدر في فلسطين المحتلة).
إن السحر والعرافة والموروثات الشعبية هي ترسانة كاملة من السلاح يمكن الاستفادة منها في الحرب النفسية (من دراسة عسكرية أجازت لجنة شئون الدفاع في الكونغرس الأمريكي نشرها في العام 1968).
لن أطلقها لهذا السبب
يبدو مما سبق أن رحى حرب ضروس تدور بين العلم الحديث والموروثات الشعبية، حلالها وحرا مها، فالرقية حلال والسحر حرام، وساحة هذه الحرب تمتد على اتساع العالم كله. ومع ذلك، فإن نظرة نلقيها على ما يجري في الغرب وما يحدث في عالمنا العربي والإسلامى تكشف أن ساحة هذه الحرب تكاد تقتصر علينا وحدنا. فالمفكر المغربي عبدالله العروي يرى من ناحية أن تفشي الاعتقاد بالسحر وأعمال الجن يؤدي إلى بقاء العلم الحديث سجين الجامعات لا يتعداها إلى الحياة العمومية، ومن ناحية ثانية، فإن الشيخ القاريء يأسف لأن ضحايا الإصابة بالعين أضاعوا سنوات من عمرهم وهم يعالجون في العيادات النفسية، وعندما تصل نشاطات العين لإصابة سيارة جديدة بالعطل، وأن تعجز الوكالة عن إصلاحها، فإن العلوم التقنية كلها تتحول إلى هباء، فما يصح في السيارة يصح والطائرة والصاروخ والقنابل النووية (!)
هذه الحدية في المواجهة بين ما يسمى العلم الحديث والموروثات الشعبية تكاد تكون مفقودة في الغرب، وفي أمريكا بالذات، ومازلنا نتذكر أنه بينما كان الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مشغولا مع جنرالات البنتاغون بمشروع "حرب النجوم " فإن زوجته السيدة نانسي كانت تخوض "حرب نجوم " من نوع آخر، فهي دأبت على استشارة عرافتها في كل شئون الرئيس، بما فيها إذا كان موعد القمة المنتظرة مع غورباتشوف مناسبا. وعندما كشفت "العرافة" عن هذه الأسرار تحولت في المجتمع الأمريكي إلى موضوع للتسلية، كما أن الرئيس ريغان، علق على هذا الموضوع ضاحكا: "إننى بالتأكيد لن أطلقها لهذا السبب " (!) ، وقد لقص معلق شعبي هذه المصالحة بين نجوم الجنرالات ونجوم العرافة بالقول "فيم الغرابة؟ الرئيس مع البنتاغون يعطي ما لقيصر لقيصر. أما السيدة نانسي وعرافتها فإنها تعطي ما لله لله، تحقيقا لما ورد في الإنجيل ".
المفتاح المقدس
ونموذج آخر، من المعروف أن الأمريكي يملك شغفا خاصا بالإحصاءات ويتعامل معها وكأنها حقائق منزلة من السماء، لذلك فقد قامت ضجة كبيرة في مطلع السبعينيات لدى أصحاب العيادات النفسية من الأطباء والمتخصصين عندما كشف إحصاء أن الأمريكيين من أصول إسبانية ومكسيكية وباقي دول أمريكا اللاتينية لا يؤمنون بالطب النفسي الحديث، وهم عندما يمرضون يلجأون إلى "الساحر" وليس إلى الطبيب النفسى، كما كشف الإحصاء عن وجود آلاف "العيادات " لهؤلاء السحرة، وخاصة في ولاية تكساس، وتحركت نقابة الأطباء النفسيين، فعينت خبراء، وأطلقت مئات الباحثين الميدانيين، بحثا عن حل لهذه "المأساة الحضارية"، وبعد عامين من الجهود المضنية، لم تطلب النقابة من الحكومة إغلاق عيادات "السحرة" كما كان متوقعا، بل دعت إلى مؤتمر يشارك فيه هؤلاء السحرة بالذات، ورعت المؤتمر إحدى الجامعات، وأخرجت الجامعة أبحاث المؤتمر في كتاب يحمل عنوان "الطب الشعبي في أمريكا" وهو غني بالحقائق كما بالأساطير. وتلخصه حكاية عن مفتاح زعم صاحبه أن أجداده أحضروه من القدس إلى أوربا أثناء الحروب الصليبية ثم نقلوه معهم إلى أمريكا، وقال الساحر إن المفتاح يتمتع بقوى خارقة، وهو قادر على الشفاء من "داء الكلب " الناتج عن عضة كلب مسعور، وتبين، بعد إجراء اختبارات على المفتاح السحري أنه قادر على شفاء داء الكلب بالفعل، ولكن ليس نتيجة لقداسته، بل لأن تجويفه يحوي درنا من غزال المسك، وهو غزال عربي، وأن صاحبه دأب على استيراد هذا الدرن وحشو المفتاح به، ومن الثابت علميا أن درن غزال المسك يشفي من عضة الكلب المسعور (!)، ويزعم صاحب المفتاح أن أجداده حصلوا على ثروات طائلة من الأمريكيين الأوائل الذين كانوا يفتقدون المضادات الحيوية لمعالجة داء الكلب.
الموروث الإفريقي وثورة المسلمين
البنتاغون ومعه الدوائر العسكرية الغربية اكتشفت ، من ناحيتها، ومنذ أمد بعيد الدور الذي يمكن أن تلعبه الموروثات الشعبية في الحرب النفسية ضد العدو. وهي في حالات كثيرة أشد تأثيرا من الحرب العسكرية. ففي إفريقيا مثلا، ومع ثورات المسلمين في القرن التاسع عشر التي هددت باقتلاع الاستعمار العسكري من تلك القارة، قامت الاستراتيجية العسكرية الاستعمارية على ركيزتين: الأولى حملات التبشير، والثانية العودة إلى ساحر القبيلة، وكما ورد في كتاب "الاستعمار في إفريقيا 1870- 1960 "- مطبعة جامعة كامبردج - الجزء الأول- فإن البعثات التبشيرية، رغم نشاطها. واجهت في المسلمين سدا راسخا، وكذلك في الحبشة التي يدين سكانها بالقبطية، ومن هنا فقد عمدت الدوائر العسكرية- فرنسية وبريطانية وألمانية وبرتغالية، إلى محاولة إعادة الاعتبار إلى الديانات البدائية- خاصة في إفريقيا الغربية، وإلى سحرة القبائل بالذات وهم يستمدون قوتهم من الأجداد الأوائل الذين ماتوا قبل وصول الإسلام. ونجحوا من خلال هذه الاستراتيجية في اخضاع معظم دول القارة.
أما في العصر الحديث فإن الكاتب الأمريكي "كين لورنس " يكشف في دراسة نشرت في الولايات المتحدة عام 1983 تحت عنوان "دين السي. آى. أيه ": "إن المناطق التى يلعب الموروث الشعبي الديني أو الخرافي دورا بارزا في حياة شعوبها هي الميدان الخصب " لأنبياء" الاستخبارات.. إذ إن "ملائكتهم " ستنتشر في كل مكان "، وهنا نموذج من قصص هؤلاء؟
"ادوارد لانسديل " كاهن أمريكي، دخل الخدمة في الجيش الأمريكي، يقبل الاعترافات ويدفن القتلى ويعمد أطفال المجندات، وصل إلى رتبة جنرال وتحول إلى شخصية أسطورية استوحتها روايتان على الأقل: " الأمريكي الهادىء " و" الأمريكي البشع ".
في عام 1972، وفي مقابلة صحافية معه، كشف لانسديل جانبأ من أسراره، قال: في الخمسينيات كنت برتبة رائد عندما أرسلتني القيادة إلي الفلبين كي أعمل مستشارأ لدى وزير الدفاع هناك "رامون ماغا سيسي " في حربه ضد قبائل "الهوك "، وكان أول ما فعلته هو أنني توليت قيادة فريق ميداني لدراسة موروثات ومعتقدات سكان المناطق التي يعيش فيها الثوار.
بعد انجاز الدراسة تبين لنا أن أبرز المعتقدات لدى أولئك السكان هو إيمانهم بوجود "مصاص دماء" يأخذ شكل خفاش ضخم، ويلتقط ضحاياه بدءا من الغروب وحتى شروق الشمس.
ويضيف الكاهن الجنرال: الخطوة الثانية كانت سهلة، فقد عمدنا عن طريق مشعوذين ورجال دين في المنطقة إلي نشر الشائعة عن عودة "مصأص الدماء"، وبعد أن تركنا فاصلأ زمنيأ يمضي لتأخذ الشائعة مداها وتعطي مفعولها، قمنا بنصب كمين في ساعة الغروب لدورية من ثوار "الهوك " واختطفنا الرجل الأخير في الدورية، ثقبنا عنقه من موضعين، كما يفعل أي مصاص دماء، ثم علقناه من قدميه كي تنزف دماؤه، بعد ذلك ألقينا جثته على الطريق، وبعد هذه العملية خلت المنطقة تماما من السكان وكذلك من الثوار".
قيامة يسوع للإطاحة بكاسترو
ويتابع الكاتب الأمريكي: ثورة " الهوك " فشلت، وزير الدفاع ماغاسيسي انتخب رئيسا للفلبين في حينه، وأسهم الكاهن الجنرال ارتفعت لدى قيادة " السي. آي. أيه " وهو ما جعله أكثر جرأة وأوسع خيالا وأشد "تدينا" إلى حد أنه اقترح على قيادة "السي. آي. أيه " أن يعيد يسوع المسيح إلى الأرض كي يطيح شخصيا بالرئيس الكوبي فيدل كا سترو"! ".
ونستمع إلي تفاصيل هذه الخطة في شهادة أدلى بها مسئول الاستخبارات توماس باروت أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1992 وهي تحمل اسم "العملية مونغوز" وهذا المونغوز حيوان صغير يشتهر بقدرته على إخراج الأفاعي من أوكارها ثم التهامها.
قال باروت في شهادته: "سوف أعطيكم مثالا واحدا عن " الوصفات " المذهلة التي يقترحها لانسديل. إن لديه خطة محكمة للتخلص من كاسترو، وهي تعتمد على نشر " كلمة " تقول إن قيامة المسيح الثانية باتت وشيكة، وإن المسيج سوف يظهر في كوبا بالذات للإطاحة بكاسترو الملحد، وبعد انتشار هذه الكلمة في جميع أنحاء كوبا، وفي التاريخ المحدد، سوف تقوم القيامة، ويظهر المسيح في هالة من نور، وهذا حقيقي مائة في المائة . صدقوني ، ذلك أن غواصة أمريكية سوف تطفو ليلا على أحد الشواطيء في كوبا، وتطلق الآلاف من الكرات والألعاب النارية الثقيلة التي سوف تسطع نجومها وعلى مسافة بعيدة عند انفجارها. وأمام هذا التجسيد العملي للقيامة، لا يملك الناس في كوبا، وكلهم متدين حتى النخاع، إلأ أن يخرجوا، بمساعدة المسيح، للإطاحة بكاسترو. حسنا، إن بعضهم يطلق على هذه العملية اسم "التصفية بسلاح النجوم "، وفي الواقع فإن عبقرية لانسديل تقوم في قدرته على استخدام هذا الخزان الديني وتصريفه في الاتجاه الصحيح، حيث لا يستطيع أي سد الوقوف في وجهه أو منعه ساعة ينفجر".
وتضيف دراسة الكاتب الأمريكي: "عملية المونغوز" فشلت، ولكن نجم الكاهن الجنرال بقي ساطعا، وتحولت "معجزاته " إلى برنامج عسكري مقرر على الضباط الأمريكيين يحمل عنوان "التعليمات العسكرية الميدانية في الحرب النفسية عبر استخدام الرموز الدينية".
ويكشف الكاتب عن نسق آخر من العمليات العسكرية النفسية فيقول إنه بعد الحرب التي قادتها بريطانيا ضد قبائل "ماو ماو" في كينيا واستخدمت في خلالها السحر والشعوذة والخرافة للسيطرة على المعتقدات الشعبية طلب نائب رئيس هيئة الأركان للعمليات الحربية في البنتاغون من "مركز تحليل المعلومات الثقافية" أن يزوده بدراسة عن احتمالات استخدام أساليب مشابهة في حرب الكونغو، وبعد عدة أشهر من الأبحاث الميدانية في غابات الكونغو ومع قبائلها وسحرتها وقياداتها الدينية قدم المركز وثيقة سرية تحمل العنوان التالي: " أعمال العرافة والسحر وظواهر دينية أخرى وتأثيرها على العمليات العسكرية وشبه العسكرية. أي السرية" وأجازت لجنة الدفاع في الكونغرس نشر هذه الدراسة في العام 1968.
تصنيع علوم الغيب
إن المجتمع الأمريكي الذي استطاع استيعاب الموروث في الداخل في محاولة لطويره والاستفادة من الموروث في الخارج لتحقيق مصالحه، وضع شروطا لهذه المصالحة الداخلية القائمة على الحوار أبرزها عدم استخدام سلم الموروث الشعبي في الضرر العام أو في الإساءة إلى الآخرين، وهو لذلك وضع عقوبات قاسية لمنع اساءة استخدام هذا الموروث ضد المصالح العامة للأمة أو الأفراد، وهو ما ينطبق على دول الغرب عموما التي تحفل أسواقها بعيادات قراء الكف والمبصرين بالفنجان بل وبأصحاب " الطرق " الصوفية - جماعة المهاريشي الهندية مثلا قبل اتهام قائدها بالتهرب من دفع الضرائب ومثلها جماعة " الموني " الكورية التي تملك صحيفة "واشنطن تايمز" وعشرات المؤسسات الأخرى، وقد أتاح الغرب بذلك تحويل هذه الاهتمامات الغيبية إلى "صناعة" مزدهرة ينطبق عليها ما ينطبق على باقي الصناعات من ضرورة حماية المستهلك (!).
أما في بلادنا فإن هذه الصناعة مازالت في مراحلها الأولى، رغم توافر المواد الأولية (!) وهي تقتصر حاليا على الكاسيتات وأشرطة الفيديو والكتب وبعض "العيادات " السرية أو شبه السرية لقارئات الكف والفنجان، بالإضافة إلى عدد من فرق " الزار" التي تمارس أعمالها علنا في بعض الدول وسرا في دول أخرى، ومع هؤلاء يوجد آلاف القراء الشرعيين الذين يخاطبون الجن، كما ورد في أحد تحقيقات مجلة "سيدتي "، ويرى بعضهم الشيطان يدخل بين الرجل ونفسه والرجل وامرأته، والرجل وكتابه والرجل وسيارته، بحيث يكاد هذا الشيطان يتحول إلى صناعة ثقيلة لابد من بناء صناعة مقابلة لمحاربتها (!).
وفي المقابل هناك عشرات الجامعات ومئات المراكز المخصصة للأبحاث العلمية والوصفية بالإضافة إلى آلاف المصانع الحديثة التي تتعامل بالتكنولوجيا المتقدمة، وهناك الملايين من العمال والفنيين الذين يتعاملون مع هذه التكنولوجيا العصرية بمهارة وكفاءة... ومع ذلك فإن بعض الظواهر تكشف فجأة عن خلل عميق في النظام الفكري العربي، والرواية عن ظهور وجه صدام حسين فوق القمر حافلة بالدلالة، إذ إن الشارع العربي المؤيد لصدام حسين كان يبني هذا التأييد على قناعات أبرزها أن نظام صدام هو نظام علماني، وأن الأسلحة المتطورة التي نجح النظام في تصنيعها هي أبلغ دلالة على مدى تقدير النظام للعلم الحديث.. ولكن في خلال أيام فقط تنهار هذه القناعات العلمية كلها ويتحول المعسكر نفسه إلى الضد، وتتسابق الجماهير إلى تبني الخرافة وتحويلها إلى معجزة، وويل لمن يشكك أو يعارض أو يتساءل.. وإلى الجحيم بالعلم كله، وقد ترافقت هذه الرواية مع رواية أخرى كانت أقل انتشارا، وهي أن عنزة في الضفة الغربية المحتلة نطقت باسم صدام وأبلغت صاحبتها أنه سوف ينتصر (!!).
ماذا قالت الجدة للحفيد؟
وفي مناسبات من هذا النوع يتضح قول العروي من أن العلم الحديث مازال حبيس الجامعات، أما الحياة العمومية فيحكمها السحر والخرافات، ومع ذلك، وفي سياق الحياة اليومية، فإن هناك إشارات مشجعة فالسائق في لبنان يعلق في سيارته أيقونة سانت كريستوفر شفيع السائقين، والسائق في مصر يعلق حذاء ولده لدفع الضرر، والسائق الباكستاني في الخليني يستورد الأشرطة الملونة من بلده لتعليقها في سيارته حماية لها من العين، والجميع يذهبون إلى الوكالة أو إلى الكاراج لإصلاح سياراتهم متى تعطلت.. وهو ما يوحي بإمكان المعايشة بين الموروث الشعبي والعلم الحديث في كثير من المجالات.
غير أن الخلل يقع عندما يزعم أحد الطرفين أنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، ويسعى بالتالي لفرض عالمه، تحت أسماء مختلفة، على الآخرين، وعن طريق القمع غالبا، ولعل في الحكاية التالية ما يلقي بعض الضوء على احتمالات التعايش كما.. الصدام: صديق شاب عاد من أمريكا بعد أن تخرج في علوم الكمبيوتر وحصل على درجة الماجستير بتفوق، استقر الشاب في المنزل الذي بناه والده في إحدى دول الخليج، وكان أول ما فعله هو أن تناول مطرقة وبدأ يهوي بها على تماثيل الأسود المحيطة بنافورة المياه التي تتوسط حديقة المنزل باعتبار أنها من الأوثان، ذعرت الجدة عندما شاهدت ما يجري ، وهي سيدة حاجة ملتزمة بتعاليم دينها خاصة في مسألة الزكاة، فصرخت في حفيدها: ولكن يا بني، أليست من الأفضل أن نغطي رءوسها بالورد فتسقط عنها صفة الوثنية، بينما تزاداد الحديقة جمالا؟ ".
... ولعل حكمت الجدات هي ما نحتاجه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق