مجلة العربي، الخميس 1 يونيو 1995 3/1/1416هـ / العدد 439
"هوليوود" يسمونها في أمريكا "المدينة المقدسة وأتباعها مليار مشاهد ولا يخجلون من مقارنتها مع... الفاتيكان. وهي مدينة "أصولية" تجعل من الوهم صناعة ثقيلة، نسيجها الحلم و.. اللحم.
مليار مشاهد، تابعوا على شاشات التلفزيون اختيار الفائزين بجوائز الأوسكار يوم 27 مارس (آذار) الماضي. بين هؤلاء 81 مليون أمريكي. الصالة التي شهدت طقوس الاحتفال اسمها "المذبح The shrine" وصحيفة "واشنطن بوست" وصفت ليلة الاوسكار بأنها "ليلة مميزة انها أقرب إلى التجربة الدينية" أما "مارتن لاندو" الذي فاز بجائزة أفضل ممثل، فقد عرض على رفاقه ان يلمسوا الاوسكار، قال "كأنك تلامس بوذا شخصيا..." وتعلق المؤلفة "اليزابيث كاي" في "ملاحظات منتصف العمر". فتقول "إن الشهرة هي دين هوليوود، ولعل عدد زائري قبر مارلين مونرو يتجاوز عدد زائري أضرحة الآباء في الفاتيكان. إن هوليوود لا تبخل بالقديسين.. ولا بالقديسات".
النص... المقدس
الفن السابع هل تحول إلى المذهب الأول في أمريكا؟ مهما اختلفت الإجابات، فانها تلتقي على أن ما يجري على الشاشة يختلف بالتأكيد عما يحدث على ارض الواقع.... وهو مذهل.
وبداية العام الدراسي التحقت بجامعة نورث فيرجينيا لأدرس كتابة السيناريو، الدراسة كانت "ورشة عمل" يشارك فيها 12 كاتبا، بينهم ثلاثة من المؤرخين. وعلى مدى ستة أشهر اغرقنا أستاذنا في "دزنية" من الكتب تهتم بموضوع واحد وهو "توضيب النص" قال الأستاذ إن 35 الف مؤلف سجلوا نصوصهم في العام الماضي فقط، ليحفظوا حق ملكيتها، وأن معظم هذه النصوص - السيناريوهات، مع عشرات الوف أخرى، لن ترى طريقها إلى الشاشة، ليس لأنها تفتقد الفكرة العظيمة بل لانها غالبا تفتقد "التوضيب" المناسب، أما هذا التوضيب المناسب، وفق مواصفات هوليوود فانه يعتمد على مئات القواعد، ويكفي أحيانا اهمال قاعدة لإسقاط النص في سلة المهملات. ومن بين هذه القواعد، كمثال فقط: أي نوع من "الكباسة" تستعمل لشبك الأوراق، وأيهما أفضل أن تجعل في الورقة ثقبين أم ثلاثة ثقوب لتجمعها في الملف، ومتى تستعمل العنوان الرئيسي، والعنوان الفرعي وأين تضعهما على يمين الصفحة أم يسارها، وما هي نوعية الحروف لكل عنوان وقياسها، والمسافة بين كل كلمة، إذا وردت في الحوار أو في وصف الحركة... قال الأستاذ بالحرف الواحد: ان شكل النص مثل طقوس العبادة، لا يمكن اذا خطأت فيه، أن تدخل ملكوت هوليوود.
أما هذا "الملكوت"، كما يعرفه الأستاذ فهو: ان سيناريو الفيلم يتكون من 120 صفحة فقط. وهذا السيناريو يتوزع كالتالي: ثلث للحوار. وثلثان للحركة (الاكشن). فاذا تحول إلى فيلم ناجح، يمكن ان يصل ثمنه إلى سبعة ملايين دولار، وهو ما حصل عليه كاتب سيناريو "حديقة الديناصورات".
ويضيف الأستاذ: ولكن كاتب السيناريو يحتاج إلى "عميل AGENT " وهذا العميل يقوم بالدور نفسه الذي يلعبه الكاهن في الكنيسة، أنه "يقودك إلى محراب الشهر". والقواعد السينمائية بمقاييس هوليوود لا تختلف كثيرا عن الطقوس الدينية.
17 مليون دولار للممثل
وإذا كان كاتب السيناريو يحصل على الفي دولار للكلمة الواحدة. فان هذه الكلمة نفسها تخترق الأرقام القياسية عندما تخرج من بين شفتي الممثل. ولعل الممثل سيلفستر ستالوني هو نموذج واحد فحسب، فقد وقع ستالوني عقدا مع شركة يونيفرسال ليقوم بدور البطولة في فيلم "ضوء النهار" الفيلم يستغرق 112 دقيقة، أي اقل من ساعتين ويظهر ستالوني فيه حوالي 90 دقيقة، أي ساعة ونصف الساعة أما الأجر الذي سوف يتقاضاه فهو مبلغ 17.5 مليون دولار ولعله أعلى اجر يتقاضاه ممثل في تاريخ السينما. ولكن هذا المبلغ يبدو زهيدا متى ما تمت مقارنته مع الدخل المتوقع للفيلم وحتى الآن فان الرقم القياسي لهذا الدخل يصل إلى 900 مليون دولار، وقد حققه فيلم "حديقة الديناصورات" ويليه فيلم "الأسد الملك" الذي حقق حتى الان مبلغ 750 مليون دولار، بينها 450 مليونا حققها من بيع شرائط مع الفيديو، خلال أربعة أسابيع فقط، منذ بداية توزيعه وفيض الدولارات مازال يتدفق في مملكة الأسد.
وهوليوود ليست مضطرة دائما لأن تدفع اجرا عاليا للبطل الرئيسي في الفيلم، فالحوت "ويلي" الذي شارك بالبطولة في فيلمين حتى الآن، حقق 200 مليون دولار أرباحا للشركة المنتجة، بينما لم تزد تكاليف اطعامه ورعايته على 20 الف دولار.. ومثله الكلبة "لاسي".
صناعة الأحلام
وطموحات الفن السابع الذي تتعامل معه هوليوود باعتباره مذهبا عالميا لا تتوقف عند حدود الفن... فقد اختارت مجلة "تايم" الأمريكية في نهاية مارس الماضي غلافا لها، يحمل عنوان "اللاعيون" ويضم ثلاثة أشخاص هم: ستيفن سبيلبرغ ودافين غافن وجيفري كاتسنبرغ، وكلهم من أعمدة هوليوود ومن اليهود بالطبع وقالت المجلة في تبرير اختيارها للغلاف، انة للمرة الأولى يحاول ثلاثة أشخاص الحصول على ملياري دولار مقابل ضمانتهم الشخصية فقط، أي أن أرصدتهم ليست في جيوبهم بل في مواهبهم، وقد سارع مصرف "كاميكال بنك" في نيويورك إلى فتح حساب بقيمة مليار دولار دفعة واحدة لتمويل شركة "دريم وورك" التي اقامها الثلاثة لانتاج الأفلام، وباقي الممولين، وبينهم عرب من الخليج، يتسابقون على تمويل شركة الأحلام في هوليورد وقد بدأ الثلاثة على الفور نباء "المعبد" وهو ستديو تصل تكاليفه إلى 200 مليون دولار.
"دائما هناك فلوس اكثر، هذا هو الامر المؤكد والوحيد في كل ما تصنعه هوليوود " قالتها كاتبة السيناريو اليانور غلين قبل 90 عاما. ومازالت النبوءة سارية المفعول حتى اليوم.
الأصوليون ينتقمون
... وهوليوود "أصولية" على الشاشة كما في الواقع. على الشاشة هي أولا مع اليهود ضد العالم كله وعندما منعت بعض الدول العربية والإسلامية عرض فيلم " لائحة شندلر" تطوع البيت الابيض ووزارة الخارجية الأمريكية للدفاع عن الفيلم و"التشهير" بكل من يمنعه بدعوى انه معاد للسامية وهي مع "الابيض" الأمريكي ضد "الأسود" وهو ما دفع السود، أو الأفارقة الامريكيين إلى تأسيس شركة انتاج خاصة بهم، بعد ان سئموا من لعب الدور الثاني، أو دور المجرم في أفلام المنتجين البيض، وهوليوود تعيد إنتاج ثأرها من اليابان، برغم مضي نصف قرن على قصف بيرل هاربور. وفي العام الماضي وحده تكبدت شركة "سوني" اليابانية خسائر زادت على ثلاثة مليارات و200 مليون دولار، بعد ان قررت دخول سوق الإنتاج عبر ستديوهاتها في هوليوود، ولكن هذا لم يضعف شهية النمور الآسيوية سواء في اليابان أو في كوريا الجنوبية لالتهام حصتها من سوق اللحم و... الحلم في هوليوود، اذ ان شركة "سوني" اختارت رئيس مجلس ادارة جديدا من اتباع طقوس هوليورد، كما ان شركة "سامسونغ" الكورية تتفاوض مع "سبيلبرغ" احد الشركاء في "دريم وورك" للمساهمة بمبلغ 900 مليون دولار، غير ان سبيلبرغ يؤكد انهم يطلبون أكثر مما نرغب في ان نعطيه "ويضيف بأصولية سينمائية "لقد اكتشفت من خلال المفاوضات معهم ان من يريد أن يكون شريكا مساويا معنا... لا بد ان يتواصل معنا بلغتنا المشتركة وليس عبر مترجم". إن هوليوود تقفل "معابدها" أمام "الآخر".
وفي عاصمة السينما تتهاوى الحدود بين الواقع و... الفيلم، مارلين مونرو التي عاشت طفولتها يتيمة من غير أب. كانت تحلم باستمرار بأن كلارك جيبل يمكن ان يكون البديل عن هذا الأب، وقد ملأت ألبوماتها بصوره، وعندما اختارت أخيرا ان تقوم بتمثيل فيلم معه اعتقدت انها سوف تتخلص من احباطات الطفولة، ولكن الحلم تحول إلى كابوس وانهارت صورة الأب وكان فيلمها الأخير قبل ان تنتحر. وكذلك كلارك جيبل الذي مات بعدها بفترة قصيرة، وقيل إن الإرهاق الذي لازمه اثناء التمثيل مع مارلين مونرو عجل بنهايته.
الممثلة "جوليا فيليبس" الفائزة بجائزة احسن ممثلة وضعت مذكراتها في كتاب صدر قبل 4 سنوات تحت عنوان "أنت لن تتناول طعامك في هذه البلدة مرة ثانية "الكتاب يقع في 628 صفحة تحفل بآلاف الفضائح وتكشف سقوط الحدود بين الحياة اليومية و... السينمائية في هوليوود. تقول: "نحن جيل الجنس والمخدرات والأحلام المكسورة... " وتروي تجاربها مع المخدر والخمر والمتعة غير المقدسة وتحكي عن حياة الممثلين والممثلات بالأسماء والوقائع، وعن طقوس الحب الجماعي، وتقلب المزاج بين لحظة وأخرى وتناوب غير الحلم والواقع واختلاطهما حتى تنعدم القدرة على التمييز بين الوهم والحقيقة. والكتاب ربما كان نسخة عصرية من "جحيم" دانتي.
"إن ما يضحك هوليوود في إبريل يمكن ان يبكيها في يونيو" يقولها كاتب السيناريو روي نيمر سوني وتضيف المؤلفة اليزابيث كاي "أنت تزرع بذور فشلك عندما تكون في القمة والطريقة الوحيدة للبقاء في القمة هي ان تموت فوقها" وتبحث كاي في هوليوود عن الناس الواقعيين فلا تجد غير المتسولة الكهلة الواقفة قرب صندوق القمامة تقول: "كانت المتسولة هي الإنسان الوحيد في هوليورد الذي يعرف انه لا يملك من الأحلام أكثر مما يتوافر في صناديق القمامة".
ولأن أحلام القمة هي البديل عن صناديق القمامة فان هوليوود لا تبخل على اتباعها بالوهم الجميل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق