مجلة العربي، الخميس 1 يوليو 1999 18/3/1420هـ /العدد 488
الأساس في الرياضة هو القبيلة تطلق فرسانها لمنافسة القبائل الأخرى، ولكن رياح العولمة تعصف، وعندما ينتصر فريق برشلونة الإسياني يصرخ المشجعون: تحيا هولندا.
يروي المؤرخون أن داحس والغبراء كانتا فرسي رهان لقبيلتي عبس وذبيان، وأن القبيلتين اختلفتا حول من كانت بينهما الفائزة في سباق ... وكل يري أن فرسه هي الفائزة، واشتعلت نيران حرب، وامتدت على مدى سنوات، واستقطبت الجزيرة العربية كلها، اليوم نسي الناس اسم القبائل التي شاركت في الحرب، ولكنهم بالتأكيد، مازالوا يذكرون اسمي الفرسين: داحس والغبراء.
" الأصل في الرياضة هو القبيلة"، هذا ما يؤكده المحامي الإسباني جون لابروتا معلقاً على ظاهرة تقض مضاجع الإسبان وهي "عولمة" فريق برشلونة القومي، حيث بات يضم في صفوفه 16 لاعباً أجنبياً من أصل 26 لاعباً، وهؤلاء الأجانب يتوزعون كالتالي : ثمانية من هولندا، ثلاثة من البرازيل، اثنان من نيجيريا، واحد من الأرجنتين وآخر من البرتغال، وثالث من يوغسلافيا، يقول المحامي الإسباني الذى يترأس "عصبة الفيل الأزرق ، وتضم جماهير مشجعي النادي: إنهم يريدون عولمتنا، هذا لا يمكن أن يحدث، إنه يكسر كل تقاليد القبيلة التي تقوم عليها لعبة كرة القدم"، ويضيف رجل الأعمال والمؤلف الذي وضع كتاباً عن الفريق جيم لورادو: هذا البرشلونة، إنه لم يعد لنا".
الحوار نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية تحت عنوان "كرة القدم السياسية" والتقطت فيه ملامح معارك يشارك فيها السياسيون والمثقفون والمؤرخون وأهل الرياضة، وتستخدم فيه مفردات الغزو والحروب، من نوع "الغزو الهولندي" وقد استخدمته صحيفة إسبانية مانشيتاً احتل صفحتها الأولي، مع أنها صحيفة سياسية ، أما مؤرخ فريق برشلونة الذي تابع سير أبطاله وانتصاراته فإن أحداً لم يبتلع دفاعه عندما قال: " إن فريق برشلونة هو فريق أهل قطالونيا، وعلى القطالونيين أن يحبوا الهولنديين في الفريق لأن هولندا قاتلت مع قطالونيا ضد الإسبان"، ومن المعروف أن كثيرين من أهل قطالونيا يعتبرون أنهم أمة قائمة بذاتها، وأن الإسبانيين غزاة(!).
الفريق لم يعد قومياً
هذه الردة الرياضية إلى القبيلة بدأت مع قانون أوربي صدر عام 1995 كسر القوانين السائدة في تحديد نسبة اللاعبين الأجانب داخل كل فريق، واعتبر أن عبارة "اللاعب الأجنبي" لا تنطبق إلا على رعايا الدول خارج الاتحاد الأوربي، وبالتالي فإن من حق أى ناد أوربي أن يحشد في صفوفة أي عدد من اللاعبين مادموا أوربيين، وهكذا، تم فتح الباب على مصراعيه لشراء اللاعبين، ولم يكن صدفة أن الفريق الفرنسي لكرة القدم الذي فاز بكأس العالم عام 1998 لم يكن بين لاغبيه سوى 6 فرنسيين من أصل 22 يضمهم الفريق، وبالمقابل فإن نادي الارسنال البريطاني يضم 6 لاعبين فرنسيين، أما مدرب الفريق القومي الإيطالي دينو زوف فلم يملك إلا أن يصرخ : "أوقفوا استيراد اللاعبين، فالفريق لم يعد قومياً".
والردة ليس إلى الدولة، بل إلى القبيلة تحديداً، هذا ما يحدث في منطقة جوتلاند في الدنمارك، وفي إقليم الباسك في إسبانيا وفي منطقة الروق والألب في فرنسا، أما في قطالونيا، فإنه يأخذ مداه، ويقول المؤلف لواردو: إن فريق برشلونة لا يعني أن 11 لاعباً يرتدون الشورت، إنه علم، بل إنه دين(!).
وهذا الفريق، كان التجسيد الوحيد للهوية القطالونية أثناء حكم الديكتاتور فرانكو، وكان الملعب هو المكان الوحيد الذي يرتفع فيه علم قطالونيا، ويصرخ المشجعون فيه باللغة القطالونية!
أنت تستطيع تغييير زوجتك
ويدخل المباراة وزير الاقتصاد الإسباني السابق آرنست لوش، فيضيف عن الفريق:" أنت تستطيع تغيير زوجتك، وأن تخرج من دينك، أو تستبدل حزبك السياسي، ولكنك أبداً لن تستطيع تغيير الفريق الذي تشجعه"، ويعجز الرئيس القطالوني عن الوقوف متفرجاً، بينما المباراة بين القبيلة والعولمة في ذروتها، فيقول :" أشعر بأن هناك خدعة، فاللاعبون القطلان الذين نحبهم، ونفرد لهم مساحة واسعة في قلوبنا، يتم استبعادهم عمداً".
أما على الصعيد الشعبي، فإن ربة البيت بلانكا روزا (61 عاماً) تقول:" إن الغضب يجتاحني عندما أشترى تذكرة لمباريات الموسم لأشاهد اللاعبين الهولنديين فقط، أريد أن أصرخ : تحيا قطالونيا وليس تحيا هولندا".
وتكتمل صورة القبيلة متى عرفنا أن نادي برشلونة فاز العام الماضي بكأس الأندية الأوربية وبكأس الملك، ويمكن أن يتكرر فوزه هذا العام، كما يتوقع مدربه الهولندي لويس فان غال، ولكن أهل قطالونيا لا يهمهم الفوز، بل أن تفوز قبيلتهم وحدها، وتلك هي المفارقة، بحيث لا يعود مستغرباً أن يطرح أحدهم شعار: فريق قومي يخسر، خير من فريق "عالمي" يربح.
بريطانيا : التعويذة
ولكل قبيلة تعويذة ورمز وطوطم مقدس تخترعه وتحدد مواصفاته، وإذا كان الأعرابي في الجاهلية، إذا جاع يأكل آلهته، فإن البريطانيين يأكلون آلهتهم متى غضبوا، وهو ما تكشف عنه إطاحة مدرب الفريق القومي البريطاني غلين هودل في مسلسل شارك في بطولته رئيس الوزراء الحالي توني بلير، والأسبق جون ميجور ووزراء آخرون ومجلس العموم وعموم الشعب البريطاني، وظهرت فيه صورة سلمان رشدي على اتساع الشاشة الرياضية.
بدأت الملحمة في مقابلة نشرتها صحيفة " التايمز" البريطانية مع مدرب الفريق القومي لكرة القدم غلين هودل، سألته خلالها: لماذا يخلق الله، في رأيك أشخاصاً معاقين عقلياً أو جسدياً ويطرحهم في العالم ليتعذبوا؟
ورد المدرب: أعتقد أن هؤلاء خلقوا معاقين تكفيراً عن خطاياهم في أجيال سابقة.
وقامت قيامة بريطانيا ولم تقعد، وترددت الصرخة بأصوات مختلفة، أطيحوا برأسه، هذا ما قاله رئيس الوزراء توني بلير ووزير المعاقين ووزير الرياضة وصحيفة التايمز نفسها، وصحيفة الإندبندنت واستجابت الكنيسة للصرخة، وعكست وسائل الاعلام المرئية في حوارات مع المواطنين، حجم الغضب الشعبي لأن الرمز القومي يؤمن بالتقمص، فهو إذن هندوسي أو بوذي(!).
صحيفة : "التايمز" كتبت: إن المدرب القومي هو أيقونة، وإن الدبلوماسية يجب أن تكون جزءاً من هويته. أما صحيفة "الإندبندنت فاستنتجت : أن المدرب القومي هو شخصية عامة، وعلي الشخصية العامة التصرف بمسئولية تجاه مواضيع تتعلق بالجنس والإعاقة والعرق.
وحدها مجلة "الإيكونوميست" خرجت على جوقة التكفير وإهدار الدم، وكشفت في تعليق يفيض سخرية وقسوة عن تلال من النفاق يحتمي خلفها كل من ساهم في إطاحة المدرب وعزله من منصبه.
سلمان رشدي ... الكروي
قالت المجلة ان حديث المدرب يدخل في باب حرية التعبير، وهي حرية مكفولة للمواطنين جميعاً بمن فيهم المسئولون، وتلك هي القاعدة التي استندت إليها بريطانيا للدفاع عن "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي، في وقت كان العالم الإسلامي فيه يغلي غضباً من تلك الآيات، إذن لماذا التخلي عن هذه القاعدة الليبرالية في حالة المدرب "الذى يفكر"؟
واقترحت المجلة إجابتين، الأولى تقول: إن سلمان رشدي هو مؤلف موهوب وجدي وملهم، ومن حقه أن يملك حرية التعبير، ومن واجب الحكومة والمجتمع توفير هذا الحق له وحمايته من أى تهديد، أما مدرب الفريق القومي فلاشأن له بهذه المسائل الفكرية، ولايمكن الدفاع عن تلك "التفاهات" التي أعلنها، وبالتالي، فإن مواصفات حرية التعبير لا تنطبق عليه لأن مهمته أن يلعب لا أن يفكر(!).
أما الإجابة الثانية، فهي عكس الأولى، فالمسائل التي طرحها المدرب هي قضايا جدية، ولكن باعتبار مركزه كشخصية عامة، وكنموذج وسفير فهو يجسد الفضائل القومية، أي يجب ألا يؤمن بالتقمص، هذا من صميم عمله، وهو ما ينطبق تماماً على الأسقف في كنيسة كانتربري، في ضرورة أن يكون مؤمناً بالبعث بعد الموت، وإذا لم يكن مؤمناً بالبعث بعد الموت لا يعود أسقفاً.
وتضيف المجلة : كلتا الاجابتين غير مقنعة، إن بلداً لا يمنح حرية التعبير إلا لأصحاب الرخص، مثل المؤلفين، لا يتعامل مع تلك الحريات بجدية، حتى أهل الرياضة يملكون حرية التجديف، وعلى القاعدة نفسها، فإن بلداً يتخلص من مدرب فريقه القومي بسبب "ضلالات" قالها لا يتعامل مع الرياضة أيضاً بجدية: إن كرة القدم لا تحتاج حتى الآن إلى أسقف بل إلى مدرب.
إن جريمة الكابتن هودل، كما برزت في النقاش العلني، هي أنه أيقونة وطوطم خرج على معتقدات قبيلته فنبذته ، وهو ما يعيد طرح السؤال : هل تحتاج كرة القدم إلى مدرب يلعب بها أم إلى طوطم يقرأ عليها؟ والإجابة، كما في مثال فريق برشلونة واضحة: الطوطم هو ما يهم وليس النصر، لأنه رمز القبيلة وجامع معتقداتها وحامي أجيالها.
الكرة نازية أم شيوعية
"كرة القدم هي أكثر المواضيع السياسية سخونة في هنغاريا"، العبارة وردت في تقرير نشرته صحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانية عن الجبهات السياسية المشتعلة في هنغاريا، وكلها تختفي تحت قبعات رياضية.
موجز التقرير هو أن رئيس حزب صغار المدخرين جوزيف تروغيان يسعى إلى رئاسة الجمهورية في العام المقبل، ويعتبر أن الطريق إلى قصر الرئاسة تمر بالملعب.
حزب صغار المدخرين هو حزب فومي متعصب، تمتد جذوره في الريف، حيث رياح العولمة لم تعصف به بعد، فالمجتمع مازال زراعياً وجذور القبيلة فيه تغور عميقاً، وكان هذا المجتمع يشكل خزاناً دائماً للانتفاضة ضد السلطة المركزية الشيوعية في العهود السابقة، وكان "معبوده" ومازال النجم العالمي "فيرنس بوشكاش" الذي تم اختياره أخيراً في المركز الرابع لأفضل لاعب عالمي في القرن العشرين.
بوشكاش لعب أولاً في نادي فيرنكافاروس، قبل أن تسحبه السلطة إلى فريق الجيش. النادي، بعد خروج بوشكاش منه، هبطت مكانته فاستولت عليه وزارة الزراعة، ولكنه لم يفقد جمهوره من أهل الريف خاصة.
ومن هنا، فإن رئيس حزب صغار المدخرين جوزيف تورغيان يعتبر أن قاعدته القومية في الريف لا يمكن أن تكتمل من دون الاستيلاء على نادي فيرنكافاروس.
وتورغيان قومي لا يعرف المساومة، وقد حصل حزبه على 13 بالمائة من أصوات الناخبين في العام الماضي، وشارك في الحكومة بأربعة وزراء بينهم وزير الرياضة والشباب، وهو يعتبره أهم وزير عنده.
كما أنه، خلافاً لرئيس الجمهورية الحالي، يطالب بفرض عقوبة الموت على المجرمين، والأهم من كل هذا، فهو يطلب منع بيع الأراضي للأجانب، وهو- باختصار- ضد العولمة، ويريد أن يستعيد نادي المزارعين أمجاد الخمسينيات على يديه، وهكذ طلب من وزير الرياضة أن يضع يديه على النادي.
ومن هنا، تبدأ داحس والغبراء الهنغارية، وعلى جميع الجبهات، فالنادي حالياً يهيمن عليه وزير الزراعة اللامع، وهو من حزب الأغلبية، ويعتبر أن النادي هو أعز ما يملكه، يدعمه في هذا رئيس الجمهورية، وهو لاعب كرة أيضاً، ومازال يمارس اللعب كهواية، وفي موازاة وزير الزراعة يقف وزير الدفاع وهو عنده نادي الجيش وفريقه، وكلا الوزيرين يقف في خط الدفاع الأول لمنع وزير الرياضة والشباب من وضع يديه على أي من الناديين.
ويعلق لازيلو كيري كبير الباحثين في الأكاديمية الهنغارية للعلوم السياسية "ان تورغيان يعرف جيداً أن عليه أن ينتهز الفرصة، إذا شاء أن يكون رئيساً، لينتزع نادي فرنكافاروس، لأنك عندما تكون من جماعة النادي، فهذا يعني أنك إنسان جيد وهنغاري أصيل".
الحرب مستمرة، وسلاحها اتهامات بالنازية، وبالعودة إلى الشيوعية، وبسلب حقوق المزارعين، يتبادلها أعضاء الحكومة في اجتماعاتهم الرسمية، ومهرجاناتهم الشعبية، وبينما رئيس الجمهورية يعد المزارعين بأنه سوف يفتح أمامهم، عبر وزير الزراعة، بوابة أوربا، فإن تورغيان يحذرهم من هذا الانفتاح، ويؤكد على حقهم القومي، والاثنان معاً عيونهما على النادي.
القبيلة تحتضر والعولمة تنتصر
آرسينيه وينغار هو مدير نادي الارسنال البريطاني، عندما تم التعاقد معه في عام 1996، تعالت الصرخة : مستحيل ، هل يستطيع أجنبي تعليم الانجليزي كيف يتعامل مع مسألة اخترعها الإنجليز في الأساس، هل قلتم إنه فرنسي أيضاً؟ مستحيل، ولكن المدير الفرنسي استطاع بعد سنتين أن يدخل موسوعة "غينيس" باعتباره أول مدرب أجنبي يحمل فريقاً بريطانياً للفوز ببطولة الأندية، وكذلك بكأسي اتحاد الكرة.
نادي الأرسنال حمل اسمه من "وولويتش أرسينال"، الذي نشأ داخل أحياء لندن الفقيرة، حيث مازالت أسطورة " فتى الحي الموهوب " تلقى إقبالاً كبيراً. مع ذلك، فإن نصف قمصان لاعبي النادي اليوم تتوزع بين الفرنسيين والهولنديين، وهذا لا يمنع مشجعي النادي من استخدام العبارات المحلية لإطراء اللاعبين الفرنسيين هتافاً وغناء.
على خطى الأرسنال، يسير كل من نادي ليفربول ومدربه فرنسي أيضاً، وفريق تشيلسي ومدربه إيطالي.
إذن ، القبيلة ، وفي العواصم الكبرى على الأقل، بدأت تحتضر، ولعل آخر ما تلفظه من أنفاسها هو اللغة.
قول المدرب وينغار- ويطلقون عليه لقب البروفيسور لأنه خريج كلية الاقتصاد- في حوار مع "الإيكونوميست":" إنني أرى كرة القدم أقرب إلى الباليه، إن هناك وسائل أخرى للتواصل بين الناس غير اللغة، وبالنسبة للرياضي، فإن هذا التوصل يتم عبر اللعب".
ويسمي وينغار اللغة الجديدة " لغة الجسد " ، ولعلها ليست صدفة أن يستخدم وينغار هذا التعبير الذى سبقه إليه المسرحي الشهير" غراتوفسكي " ، واعتمد علي " لغة الجسد " في مسرحياته الصامتة.
التضحية بلغة " شكسبير " قد تكون إحدى ثمار العولمة، مع ذلك، فإن فتى الحي أو القبيلة الموهوب مازال يحاول، وبشراسة، أن يرد الأهداف عن شباكه وما أكثرها.
كيسنجر يدخل الأولمبياد
الوزير الأميركي الأسبق هنري كيسنجر دخل معركة الأولمبياد، وتم اختياره عضواً في لجنة الحكماء التي تقرر تشكيلها بعد فضائح لجنة الأولمبياد في " ليك سيتي "، مهمة الوزير والمفكر السياسي البارز أن يساهم في وضع ميثاق جديد لألعاب الأولمبياد، وهي مهمة ربما تتجاوز في صعوبتها، وضع ميثاق الأمم المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق