التاريخ: 26 مارس 1999
رومانو برودي المرشح الابرز لرئاسة المفوضية الاوروبية يحمل لقب (رجل الموزاييك) بعد ان وضع كتاباً عن فن (الموزاييك) وصناعته . برودي يحب هذا اللقب, فهو جاء من الجامعة, وكان يعلّم طلابه في كلية الاقتصاد كيف يستطيعون جمع قطع الموزاييك الصغيرة والمتنوعة, سواء كانت شركات او جمعيات او احزابا ليصنعوا منها لوحة متكاملة.
وهذه الشهية المفتوحة لجمع قطع الموزاييك هي ما دفع الاحزاب الايطالية في عام 1996 الى اختياره رئيسا للوزراء, فهو قادر على ان يصنع الوحدة من التنوع, وان لا يترك اية قطعة مهما صغرت من دون ان يستفيد منها في صنع اللوحة وهو تماما ما تحتاجه المفوضية الاوروبية, او (حكومة العالم) اليوم.
السيدة ذات اللسان المالح برودي هو النقيض للسيدة اديث كريسون رئيسة الوزراء التي حكمت فرنسا مدة عشرة اشهر فقط, ايام الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران, وانتهت بسقوطها.
كريسون رغم انها اشتراكية, الا انها قومية من ناحية, وانثوية من ناحية ثانية, وعندما قارن احد اعضاء البرلمان الفرنسي بين الازدهار الاقتصادي في اليابان في مطلع التسعينات وبين الكساد في فرنسا, اجابت: السبب هو ان اليابانيين يحملون اخلاق النمل وسلوكه, انهم (نمليون) وعندما سئلت في مناسبة اخرى عن اسباب كره الانجليز والامريكيين لها, اجابت: ان من بين كل اربعة انجليز او امريكيين واحدا شاذا جنسيا, هم لا يكرهونني بل يكرهون المرأة.
أجهزة الاعلام وصفتها بانها السيدة ذات اللسان المالح, وبعد سقوط حكومتها, اختارها الرئيس فرانسوا ميتران عام 1994 لتكون ممثلة فرنسا في المفوضية الاوروبية التي تضم 19 عضوا بالاضافة الى الرئيس. وقد نالت كريسون حصة الاسد من الفضائح التي كشفت عنها (لجنة الحكماء) في تقريرها عن سوء الادارة, والتزوير والمحسوبية داخل المفوضية الاوروبية, فهي عينّت طبيب اسنانها باعتباره خبيراً في شؤون الايدز, ودفعت من ميزانية المفوضية مبلغ 160 الف دولار لطبيب اخر وضع تقريراً طبيا لا قيمة له.
وعبارة (فضائح) يبدو مبالغاً فيها, اذ ان التقرير, وهو يقع في 144 صفحة, يشير غالبا الى سلوك (غير اخلاقي) لدى بعض الاعضاء, من نوع تكليف جهاز الامن الخاص بالمفوضية, ومعظم رجاله من البلجيك, بالتوسط لدى السلطات لالغاء مخالفة سير ارتكبها احد الاعضاء, او لسحب تقرير وضعته احدى الدوريات وذكرت فيه ان احد اعضاء المفوضية كان يقود سيارته وهو سكران (!). رئيس المفوضية, وهو رئيس وزراء لوكسمبورج السابق جاك سانتير علق على التقرير فوصف نفسه قائلاً: (انا اشد بياضا من البياض) مما يذكر بالاعلانات التلفزيونية عن المنظفات. ليست الفضائح هي ما دفع أعضاء المفوضية العشرين الى الاستقالة الجماعية بل الهيمنة القومية من (الشقيق الأكبر) على الأعضاء, وهذا الشقيق في حالة المفوضية كان ألمانيا وفرنسا, وكان موقع هذا (التوأم) يحتل مركز صانع القرار داخل المفوضية الأوروبية. الحكومة الخفية أكثر من ذلك, المفوضية نفسها كانت (الحكومة الخفية) , التي تتخذ قراراتها داخل مجالس مغلقة, ولا تعلن عن ما دار داخل تلك الجلسات, كما أنها لا تخضع لمراقبة البرلمان الأوروبي, وهذه النقطة الأخيرة هي بيت القصيد كما يقال.
البرلمان الأوروبي هو هيئة تمثيلية منتخبة مباشرة من قبل الشعوب الأوروبية, ويضم 626 عضواً, وهذا البرلمان المنتخب كان أقرب الى مجلس الشورى, فهو لا يملك صلاحية اصدار التشريعات بل الموافقة عليها أو تعديلها, بعد أن تصدر عن مجلس المفوضين, ولم يكن البرلمان يملك حق الفيتو لمنع سريان القوانين, أي أنه كان برلماناً من دون أنياب, وكان هذا (عقب آخيل) في الجسد الأوروبي الموحد, إذ أن المفوضين يتم اختيارهم من قبل الحكومات, وكان هؤلاء يمتلكون سلطة مطلقة, وهو ما كان يهدد الاتحاد الأوروبي بأن يتحول الى اتحاد (من فوق) لا تلعب الشعوب دوراً في ترسيخ بنيانه أو تصحيح مسيرته, وهذا الخلل كان يؤدي الى خلل آخر وهو تغليب المصلحة القومية لكل دولة, وبالتالي فقد كان الاتحاد يحفر قبره بيديه, بعد أن أهمل دور ممثلي الشعوب في صنع الاتحاد, وأدرك البرلمانيون هذه الحقيقة وتصدوا للبيروقراطيين, وطالبوا بإقالة أعضاء المفوضية جميعاً, ودارت رحى معركة ديمقراطية شرسة بين السلطة التشريعية التي هي البرلمان وكانت عاجزة عن التشريع وبين السلطة التنفيذية وهي المفوضية والحكومة السرية البيروقراطية, وتم تشكيل لجنة تحقيق من خمسة أعضاء أوروبيين, من خارج الاتحاد, أسميت لجنة الخبراء, ثم صارت شعبياً لجنة الحكماء.. وأصدرت اللجنة تقريرها.. ومع الكشف عن مضمون التقرير استعادت الديمقراطية أنيابها الشعبية.
ديمقراطية ومزيد من الديمقراطية استقالة المفوضية فتحت الباب أمام جملة تعديلات سوف يتم تطبيقها مع الانتخابات البرلمانية في يونيو المقبل, وهي تمنح البرلمان الأوروبي دور (المشارك) في صنع القرار, كما أنه يملك حق النقض لمنع أي قانون يصدر عن المفوضية الأوروبية ولا يرضي أعضاء البرلمان. إن أوروبا تبرهن مجدداً أن اخطاء الديمقراطية لا يمكن اصلاحها إلا بالمزيد من الديمقراطية, وأن (رجل الموزاييك) ــ وليس الجرانيت ولا الصوان ــ مهما كان عادلاً, هو القادر وحده على صنع الوحدة من التنوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق