حكايات سياسية، بقلم ــ شوقي رافع،التاريخ: 28 أغسطس 1998
باكتيريا- هو اسم افغانستان القديم, قبل ان يشملها الفتح
الاسلامي وتصبح بلاد خراسان . والباكتيريا, كما يقول الاطباء, نوعان: نوع
حميد ومفيد لا غنى للعافية عنه, ونوع.. قاتل يفتك بالجسد ويفسد وظائف
الاعضاء. اي النوعين يمكن ان تعززه (طالبان) بعد ان احكمت قبضتها على بلاد
الباكتيريا؟ هنا بعض المؤشرات: يبلغ عدد سكان افغانستان نظريا حوالي (17)
مليون انسان, اما عمليا فهناك ما يصل الى (6) ملايين افغاني غادروا البلاد
منذ العام 1978, مع بداية التدخل السوفييتي في افغانستان, كما ان هناك
مليونين آخرين قتلوا في خلال حرب التحرير ضد الروس, وفي حروب التحرير
الاخرى بين (المجاهدين) انفسهم, ومع الموجات الاخيرة من الفتوحات التي
حققتها طالبان ليس من المبالغة اذا قلنا ان عدد الافغان اليوم في الداخل
اقل من عددهم في الخارج.
يموتون مبكرا ومن دون حرب وعند استقالة الرئيس نجيب الله في عام 1992 وتسلم برهان الدين رباني مقاليد الجمهورية كان المعدل الوسطي لعمر الانسان في افغانستان وفقا لموسوعة (المناك) الدولية, هو 46 عاما للرجل و44 عاما للمرأة وللمقارنة فحسب, ذكرت الموسوعة ان المعدل الوسطي لعمر الانسان في دولة الامارات في الفترة نفسها, هو 70 عاما للرجل و74 عاما للمرأة, وليس هناك ما يدعو حتى الان الى الاستنتاج بان حروب الطالبان وانتصاراتها قد نجحت في رفع المعدل الوسطي لاعمار السكان, خاصة النساء, في افغانستان. الطلاب يحكمون اما عن التعليم فتقول الموسوعة ان (88) بالمائة من البالغين لم يدخلوا اية مدارس نظامية, اي انهم اميون واشباه اميين, وبعد قرار الطالبان باقفال مدارس البنات فان نسبة الأمية سوف ترتفع بالتأكيد, ومن هنا تظهر المفارقة الكبرى وهي ان هذا الشعب من اشباه الأميين تحكمه (الطالبان) اي طلاب المدرسة الدينية, ولعله, كما يشير احد المراقبين, هو اول شعب في العالم يحكمه الطلاب (!), وهنا ربما يقال ان هؤلاء الطلاب درسوا في (جمعية علماء الاسلام) في باكستان, وهي حزب سياسي, ولم يدرسوا في (سيليكون فالي) , حيث تقوم صناعات الكومبيوتر الامريكية, ولا في مختبرات نيويورك أو شيكاغو, حيث يقوم العمل على قدم وساق في حقول استنساخ النبات والحيوان والبشر, ولكن لعل الرد المناسب, اذا حسنت النوايا, هو ان علوم الدين الاسلامي بالذات كانت باستمرار, وكما يثبت تاريخ المفكرين والعلماء المسلمين هي المدخل الصحيح للعلوم المتخصصة, في الطب الى الرياضيات وحتى علوم الموسيقا. وحسبنا الاية الكريمة (وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟) . المحاربون الفقراء وتكتمل صورة (الداخل) الافغاني عندما تشير الموسوعة الدولية الى ان متوسط دخل الفرد في افغانستان وقبل ان تحتل طالبان العاصمة كابول لم يكن يزيد عن 200 دولار سنويا للفرد الواحد.. ومع موجات الحروب الأخيرة, ورغم غياب الاحصاءات, فإن دخل الفرد المتوقع يوميا لايزيد عن نصف دولار, وللمقارنة أيضا , فإن معدل دخل الفرد السنوي في الامارات وفقا للموسوعة يصل إلى 13800 دولار, أي بزيادة تصل إلى سبعين مرة زيادة عن معدل دخل الفرد في أفغانستان. ومع استمرار الحرب وهي مرشحة لأن تستمر في أطراف البلاد على الأقل, فإن الأوضاع لا تحتمل ان تزداد سوءا بعمليات من النوع الذي نفذته الولايات المتحدة مؤخرا ضد ما أسمته قواعد للارهاب في أفغانستان. مع ذلك كله, وربما بسبب ذلك كله, هناك من يراهن على ان حكومة الطلاب قادرة على ان تقود حركة تنوير في ظلمة تلك البلاد, وأن الحركة عندما تصير حكومة تخضع لمقاييس مختلفة في العلاقات الدولية. وباختصار فإن هناك من يراهن على (تدجين) الطالبان وسوقها إلى حظيرة المجتمع الدولي, ومنح قيادتها بطاقات لدخول الشرعية الدولية. تراث من الحروب ولكن تواجه هذا الرهان ثلاث عقبات كبيرة الأولى هي أن (الطالبان) حركة دينية من انتاج جمعية العلماء في باكستان, ونعرف ان باكستان هي الدولة الاسلامية الأولى في العالم التي رأت في اسلامها سببا كافيا للانفصال عن الوطن الأم والقتال مع دفع ملايين الضحايا لاقامة دولة اسلامية مستقلة, لذلك كانت الحرب الأولى مع الهند, وهي مازالت مستمرة, وتحصد يوميا عشرات الضحايا على الجانبين في كشمير, أما الحرب الثانية التي خاضتها باكستان فكانت ضد انفصال بنجلاديش عنها , وهذه الحرب الثانية بين الأشقاء المسلمين حصدت مليوني ضحية في بنجلاديش وحدها. ونقصد من الاشارة إلى هذه الحروب إلى التأكيد على ان الاسلام في باكستان هو انسان محارب, ويقاتل على التفاصيل الصغيرة ولعل ما تشهده شوارع كراتشي اليوم من أحداث عنف واغتيالات جماعية متبادلة يعيد الكشف عن هذه الحقيقة وهي ان مقاتلي (الطالبان) الذين درسوا في جمعية العلماء المسلمين في باكستان يحملون تراثا من (الحروب) الدينية, ولا يكتفون بالاسلام عنوانا للشرعية , بل يدخلون في التفاصيل ويقاتلون سواهم من المسلمين على هذه التفاصيل.. وصولا إلى تحديد طول لحية المسلم! الوحش ينقلب على مخترعه ثاني هذه العقبات هي ان الطالبان تبدو أقرب إلى الوحش الذي انقلب على مخترعه, فالأساس في وجود حركة (المجاهدين) والطالبان استمرار لها هي القتال ضد الاحتلال الروسي لأفغانستان, وهو قتال غذته ورعته وسعت على استمراره الولايات المتحدة الأمريكية وأبرزها وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إيه) ومن يعود إلى المطبوعات الأمريكية في النصف الثاني من الثمانينات يكتشف هالات البطولة التي أسبغها الاعلام الأمريكي على رجل الأعمال اسامة بن لادن. وأذكر عن معلق سياسي أمريكي قوله : ان بن لادن هو النموذج الذي دعا الوزير السابق هنري كيسنجر إلى تعميمه في جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة لمحاربة الشيوعية وتفكيك الامبراطورية السوفييتية, وكان هذا قبل ان يقوم جورباتشوف بتلك المهمة, ونظرية كيسنجر في هذا السياق معروفة, فهو دعا إلى احياء العامل الديني القوي في نفوس المسلمين لضرب الروس ليس في أفغانستان وحدها بل داخل الامبراطورية السوفييتية أيضا, ومن السخرية ان مفكرين سياسيين أمريكيين يرون اليوم وبعد انهيار الشيوعية, ان الاسلام بات هو العدو (!), وان نموذج بن لادن يمثل قمة الارهاب (!). مع ذلك فإن كثيرين من صانعي القرار في أمريكا مازالوا يرون ان الطالبان هم الأكثر قدرة على تحجيم, ان لم يكن مواجهة الجمهورية الاسلامية في إيران, ويعتبرون ان سكة السياسة الأمريكية تجاه طهران لابد ان تمر من طالبان, وبالتالي فإن ما يجمع أكثر مما يفرق, وان الاستراتيجيا أهم من التكتيك, وهم يعملون على تحقيق هذه الاستراتيجيا انطلاقا من تراث طالبان الحربي والتطرف المذهبي. مذهبية والمرأة عدو أما ثالث هذه العقبات التي تمنع حركة طالبان بوضعها الحالي من قيادة حركة تنوير تعيد إلى المجتمع المدني مؤسساته, وتنقله من حالة الحرب الأهلية إلى السلم الأهلي فهو التمييز أولاً بين المواطنين على صعيد المذاهب, حيث اعترف قادة الحركة أنفسهم باعتقالات مذهبية, وهو ما يساعد على استمرار هذا الاقتتال الداخلي, وثانيا هذا التمييز بين الرجل والمرأة الذي يجعل من المرأة مخلوقا لا يستحق نعمة العلم ولا العمل ولا حتى الخروج من المنزل. ان (الطالبان) الحاكمة في بلاد الباكتيريا تعدنا بالكثير من الحروب والقليل من .. العافية.
يموتون مبكرا ومن دون حرب وعند استقالة الرئيس نجيب الله في عام 1992 وتسلم برهان الدين رباني مقاليد الجمهورية كان المعدل الوسطي لعمر الانسان في افغانستان وفقا لموسوعة (المناك) الدولية, هو 46 عاما للرجل و44 عاما للمرأة وللمقارنة فحسب, ذكرت الموسوعة ان المعدل الوسطي لعمر الانسان في دولة الامارات في الفترة نفسها, هو 70 عاما للرجل و74 عاما للمرأة, وليس هناك ما يدعو حتى الان الى الاستنتاج بان حروب الطالبان وانتصاراتها قد نجحت في رفع المعدل الوسطي لاعمار السكان, خاصة النساء, في افغانستان. الطلاب يحكمون اما عن التعليم فتقول الموسوعة ان (88) بالمائة من البالغين لم يدخلوا اية مدارس نظامية, اي انهم اميون واشباه اميين, وبعد قرار الطالبان باقفال مدارس البنات فان نسبة الأمية سوف ترتفع بالتأكيد, ومن هنا تظهر المفارقة الكبرى وهي ان هذا الشعب من اشباه الأميين تحكمه (الطالبان) اي طلاب المدرسة الدينية, ولعله, كما يشير احد المراقبين, هو اول شعب في العالم يحكمه الطلاب (!), وهنا ربما يقال ان هؤلاء الطلاب درسوا في (جمعية علماء الاسلام) في باكستان, وهي حزب سياسي, ولم يدرسوا في (سيليكون فالي) , حيث تقوم صناعات الكومبيوتر الامريكية, ولا في مختبرات نيويورك أو شيكاغو, حيث يقوم العمل على قدم وساق في حقول استنساخ النبات والحيوان والبشر, ولكن لعل الرد المناسب, اذا حسنت النوايا, هو ان علوم الدين الاسلامي بالذات كانت باستمرار, وكما يثبت تاريخ المفكرين والعلماء المسلمين هي المدخل الصحيح للعلوم المتخصصة, في الطب الى الرياضيات وحتى علوم الموسيقا. وحسبنا الاية الكريمة (وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟) . المحاربون الفقراء وتكتمل صورة (الداخل) الافغاني عندما تشير الموسوعة الدولية الى ان متوسط دخل الفرد في افغانستان وقبل ان تحتل طالبان العاصمة كابول لم يكن يزيد عن 200 دولار سنويا للفرد الواحد.. ومع موجات الحروب الأخيرة, ورغم غياب الاحصاءات, فإن دخل الفرد المتوقع يوميا لايزيد عن نصف دولار, وللمقارنة أيضا , فإن معدل دخل الفرد السنوي في الامارات وفقا للموسوعة يصل إلى 13800 دولار, أي بزيادة تصل إلى سبعين مرة زيادة عن معدل دخل الفرد في أفغانستان. ومع استمرار الحرب وهي مرشحة لأن تستمر في أطراف البلاد على الأقل, فإن الأوضاع لا تحتمل ان تزداد سوءا بعمليات من النوع الذي نفذته الولايات المتحدة مؤخرا ضد ما أسمته قواعد للارهاب في أفغانستان. مع ذلك كله, وربما بسبب ذلك كله, هناك من يراهن على ان حكومة الطلاب قادرة على ان تقود حركة تنوير في ظلمة تلك البلاد, وأن الحركة عندما تصير حكومة تخضع لمقاييس مختلفة في العلاقات الدولية. وباختصار فإن هناك من يراهن على (تدجين) الطالبان وسوقها إلى حظيرة المجتمع الدولي, ومنح قيادتها بطاقات لدخول الشرعية الدولية. تراث من الحروب ولكن تواجه هذا الرهان ثلاث عقبات كبيرة الأولى هي أن (الطالبان) حركة دينية من انتاج جمعية العلماء في باكستان, ونعرف ان باكستان هي الدولة الاسلامية الأولى في العالم التي رأت في اسلامها سببا كافيا للانفصال عن الوطن الأم والقتال مع دفع ملايين الضحايا لاقامة دولة اسلامية مستقلة, لذلك كانت الحرب الأولى مع الهند, وهي مازالت مستمرة, وتحصد يوميا عشرات الضحايا على الجانبين في كشمير, أما الحرب الثانية التي خاضتها باكستان فكانت ضد انفصال بنجلاديش عنها , وهذه الحرب الثانية بين الأشقاء المسلمين حصدت مليوني ضحية في بنجلاديش وحدها. ونقصد من الاشارة إلى هذه الحروب إلى التأكيد على ان الاسلام في باكستان هو انسان محارب, ويقاتل على التفاصيل الصغيرة ولعل ما تشهده شوارع كراتشي اليوم من أحداث عنف واغتيالات جماعية متبادلة يعيد الكشف عن هذه الحقيقة وهي ان مقاتلي (الطالبان) الذين درسوا في جمعية العلماء المسلمين في باكستان يحملون تراثا من (الحروب) الدينية, ولا يكتفون بالاسلام عنوانا للشرعية , بل يدخلون في التفاصيل ويقاتلون سواهم من المسلمين على هذه التفاصيل.. وصولا إلى تحديد طول لحية المسلم! الوحش ينقلب على مخترعه ثاني هذه العقبات هي ان الطالبان تبدو أقرب إلى الوحش الذي انقلب على مخترعه, فالأساس في وجود حركة (المجاهدين) والطالبان استمرار لها هي القتال ضد الاحتلال الروسي لأفغانستان, وهو قتال غذته ورعته وسعت على استمراره الولايات المتحدة الأمريكية وأبرزها وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إيه) ومن يعود إلى المطبوعات الأمريكية في النصف الثاني من الثمانينات يكتشف هالات البطولة التي أسبغها الاعلام الأمريكي على رجل الأعمال اسامة بن لادن. وأذكر عن معلق سياسي أمريكي قوله : ان بن لادن هو النموذج الذي دعا الوزير السابق هنري كيسنجر إلى تعميمه في جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة لمحاربة الشيوعية وتفكيك الامبراطورية السوفييتية, وكان هذا قبل ان يقوم جورباتشوف بتلك المهمة, ونظرية كيسنجر في هذا السياق معروفة, فهو دعا إلى احياء العامل الديني القوي في نفوس المسلمين لضرب الروس ليس في أفغانستان وحدها بل داخل الامبراطورية السوفييتية أيضا, ومن السخرية ان مفكرين سياسيين أمريكيين يرون اليوم وبعد انهيار الشيوعية, ان الاسلام بات هو العدو (!), وان نموذج بن لادن يمثل قمة الارهاب (!). مع ذلك فإن كثيرين من صانعي القرار في أمريكا مازالوا يرون ان الطالبان هم الأكثر قدرة على تحجيم, ان لم يكن مواجهة الجمهورية الاسلامية في إيران, ويعتبرون ان سكة السياسة الأمريكية تجاه طهران لابد ان تمر من طالبان, وبالتالي فإن ما يجمع أكثر مما يفرق, وان الاستراتيجيا أهم من التكتيك, وهم يعملون على تحقيق هذه الاستراتيجيا انطلاقا من تراث طالبان الحربي والتطرف المذهبي. مذهبية والمرأة عدو أما ثالث هذه العقبات التي تمنع حركة طالبان بوضعها الحالي من قيادة حركة تنوير تعيد إلى المجتمع المدني مؤسساته, وتنقله من حالة الحرب الأهلية إلى السلم الأهلي فهو التمييز أولاً بين المواطنين على صعيد المذاهب, حيث اعترف قادة الحركة أنفسهم باعتقالات مذهبية, وهو ما يساعد على استمرار هذا الاقتتال الداخلي, وثانيا هذا التمييز بين الرجل والمرأة الذي يجعل من المرأة مخلوقا لا يستحق نعمة العلم ولا العمل ولا حتى الخروج من المنزل. ان (الطالبان) الحاكمة في بلاد الباكتيريا تعدنا بالكثير من الحروب والقليل من .. العافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق