حكايات سياسية: بقلم- شوقي رافع -التاريخ: 08 يناير 1999
الحدود والعلم والنقود كانت دائماً الثالوث المقدس الذي يضع
الدول ذات السيادة الوطنية, او الامبراطوريات, وكان الصراع في
الامبراطوريات القديمة يقوم على فرض هذا الثالوث المقدس على المركز
والأطراف , وكلما توسعت الحدود, وارتفع علم الامبراطور فوق مساحات جديدة من
الأرض. وأخذت الناس تتداول نقوداً تحمل صورة الامبراطور او شعاره كلما
ازدهرت الامبراطورية وارتفع شأن قائدها, وبالمقابل فان قادة حركات الانشقاق
او التمرد او الاستقلال عن الامبراطورية كانوا يعلنون عن استقلالهم وقيام
دولتهم الجديدة عبر طرح ثالوث مقدس جديد: حدود جديدة, وعلم جديد ونقود
جديدة... ومنها كان القائد يصنع دولة مستقلة ذات سيادة... يسميها الوطن.
ولكن هذا كله صار في ذمة التاريخ او... يكاد.
الحدود تهاوت, العلم الوطني صار يصلح لصنع حفاضات للأطفال والنقود المحلية دخلت متحف التاريخ او تكاد... اما الزعماء والقادة والسياسيون فانهم حائرون بين دورين: دور الملكة اليزابيث في بريطانيا او دور البابا في روما (!). بيني وبينهم خط الاستواء نبدأ من الحدود (المقدسة) حيث تروي طرفة خليجية ان وفداً اجنبياً زار قبيلة في الخليج والتقى شيخها, وعرض الشيخ امام الوفد حدود دولته, وعندما وصل الى حدوده مع الجيران, ركّز عصاه فوق الخارطة وقال: هذه حدودنا وتلك حدودهم, وهذا الخط بيننا هو خط الاستواء (!). اي ان الشيخ لم يكتف بأن يعود بحدوده الى ايام سيدنا نوح ليبرهن ان دولته قائمة منذ فجر التاريخ وقيام الحضارة البشرية بل انه نسب هذه الحدود الى الطبيعة التي صنعها الخالق, وبالتالي فقد كان يؤكد للوفد الاجنبي ان حدود دولته على الارض انما صنعت في السماء, وبالتالي لا سبيل الى تغييرها (!). ولعل عفوية الشيخ في الدفاع عن تلك الحدود تبدو بريئة مقارنة مع ذلك (القائد الضرورة) الذي اسكن نصف شعبه ملكوت السماوات واحتفظ بالباقي رهائن في جحيم ارضه, دفاعاً عن الحدود التاريخية المقدسة (!). لا حدود والعلم... حفاضات ولكن هذا كله صار في ذمة التاريخ او يكاد, فالولايات المتحدة الامريكية اقامت امبراطوريتها حرباً وسلماً, ولاية بعد ولاية, ومن نيويورك على الساحل الشرقي الى لوس انجلوس على الساحل الغربي, وسواء قطعتها على مدى 15 يوماً بالسيارة, او على مدى خمس ساعات بالطائرة, فأنت لا تحتاج الى جواز سفر, أو استبدال العملة, أو العلم اذا كنت من هواة جمع الاعلام. وليست الحدود وحدها هي ما انهار امام الزمن الفيدرالي, بل ان علم الأمة بخطوطه ونجومه بدأ يفقد قدسية, فالكونجرس الامريكي مازال حائراً امام قضية العلم, اذ أن احدى الشركات صنعت ملابس داخلية, نصفها السفلي, يحمل صورة العلم الامريكي, من الامام والخلف, وفي الحالتين, فان المكان ربما لم يكن مناسباً, كما ان امريكيين آخرين يقومون بحرق علمهم الوطني احتجاجاً... ولم يحسم الكونجرس مسألة اذا ما كان الفاعل مجرماً, او يمارس حقه في التعبير وفقا للدستور الامريكي. ... وتلك كانت الارهاصات الأولى, ثم جاء دور اوروبا, وهي قبائل لم يشغلها على مدى نصف القرن الاخير سوى ان تتحارب فيما بينها, وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها في منتصف هذا القرن وبدأت الشعوب اعادة بناء ما دمرته الحروب وصف المؤرخون تلك المرحلة بأنها (استراحة المحاربين) , ولم تجد رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر حرجاً في دعوة عشرات المفكرين الى ندوة مغلقة تناقش احتمالات ان تقوم المانيا, بعد توحيدها, باشعال حرب جديدة في اوروبا... اوروبا و... نحن ولكن هذا ايضا صار في ذمة التاريخ, فأوروبا الموحدة قامت بالغاء الحدود فيما بينها أولاً, ثم قررت توحيد النقود, وبعد سنتين من نهاية هذا القرن, فان الاوروبي يستطيع ان ينتقل من اسبانيا الى انجلترا, مروراً بأوروبا, من دون ان يحمل جواز سفره او يضطر لاستبدال عملته. وتم تتويج هذا كله بتحرير التجارة وتوقيع اتفاقية (الجات) وملحقاتها مما جعل العالم كله قرية صغيرة, مع استثناءات, معظمها يقع في العالم الثالث, حيث حروب الحدود, وحروب القبائل, وحروب الثأر, ساخنة وباردة مازالت تعصف بشعوبها, وتقفل الحدود فيما بينها بخطوط استواء مزروعة بالألغام, وليس من قبيل الصدفة ان تكون علاقة الجزائر مع فرنسا اقتصادياً وسياسياً افضل من علاقتها مع جارتها المغرب, وان يعلن الرئيس الليبي معمر القذافي خروجه من العروبة شرقاً وغرباً وان يرحل بشعبه جنوباً... وأن تصرّ حكومة السودان الافريقية انها أقرب الى جمهورية ايران الآسيوية منها الى جارتها مصر العربية... القوة 17 ... ومع انهيار الحدود وتوحيد النقود يأتي الدور على القائد الذي فقد دوره. فالسيد اليورو الذي صار عملة اوروبا الموحدة يتمتع باستقلال مطلق عن جميع القادة السياسيين في أوروبا. ان البنك المركزي الاوروبي, بموجب معاهدة ماستريخت, يصادر حقوق السيادة النقدية للدول المشاركة, ويمنع القادة السياسيين في الدول المشاركة من التدخل في شؤونه. البنك يضم مجلساً تنفيذياً يرأسه حالياً الهولندي فيم داوسينبرج ويساعده فريق من أربعة أعضاء, كما يضم ايضا مجلس الحكام, وهذا المجلس يجمع حكام البنوك المركزية في الدول المشاركة وعددهم 11 حاكماً, وهؤلاء مع المجلس التنفيذي يشكلون أعلى سلطة نقدية في اوروبا, انهم بالعبارة السائدة في لبنان ايام الحرب الأهلية (القوة 17) , والمداولات التي تتم في نطاق هذه القوة سرية, والتصويت سري, وليس من حق أي سياسي ان يعرف ما اذا كان حاكم المصرف المركزي في بلده قد أعطى صوته لبلده ووطنه... أو لبلد عضو آخر. السرية و... الديمقراطية المقصود من قانون السرية هو حماية العضو المنتدب الى البنك المركزي من بطش السياسي في بلده او من محاولة رشوته واغوائه, ولتأكيد هذه الغاية, فان رئيس المصرف الاوروبي المركزي ينتخب لمدة ثماني سنوات غير قابلة للتجديد, اي انه لن يضطر الى مجاملة او الخضوع لاي ضغط على امل التجديد له, كما ان حكام البنوك بدورهم يتعاقدون مع البنك الاوروبي لمدة خمس سنوات, ومن هنا فان السرية من ناحية, وعدم حق الرئيس في التجديد من ناحية ثانية يحمي البنك من ضغوط القادة السياسيين, ويحول هذا البنك الى كهنوت مقدس يقيم صلاته في الخزائن وليس في الكنائس و... يبارك السيد اليورو. ... وعندما سئل الحاكم الهولندي فيم داوسينبرج كيف يستطيع ان يوفق بين قانون السرية وبين شفافية الديمقراطية التي تتمتع بها اوروبا, قال: لعلها لن تبقى سرية, وربما تسمح بالكشف عنها بعد 16 عاماً من وقوعها. ... والوحدة دائماً تحتاج الى تضحيات.
الحدود تهاوت, العلم الوطني صار يصلح لصنع حفاضات للأطفال والنقود المحلية دخلت متحف التاريخ او تكاد... اما الزعماء والقادة والسياسيون فانهم حائرون بين دورين: دور الملكة اليزابيث في بريطانيا او دور البابا في روما (!). بيني وبينهم خط الاستواء نبدأ من الحدود (المقدسة) حيث تروي طرفة خليجية ان وفداً اجنبياً زار قبيلة في الخليج والتقى شيخها, وعرض الشيخ امام الوفد حدود دولته, وعندما وصل الى حدوده مع الجيران, ركّز عصاه فوق الخارطة وقال: هذه حدودنا وتلك حدودهم, وهذا الخط بيننا هو خط الاستواء (!). اي ان الشيخ لم يكتف بأن يعود بحدوده الى ايام سيدنا نوح ليبرهن ان دولته قائمة منذ فجر التاريخ وقيام الحضارة البشرية بل انه نسب هذه الحدود الى الطبيعة التي صنعها الخالق, وبالتالي فقد كان يؤكد للوفد الاجنبي ان حدود دولته على الارض انما صنعت في السماء, وبالتالي لا سبيل الى تغييرها (!). ولعل عفوية الشيخ في الدفاع عن تلك الحدود تبدو بريئة مقارنة مع ذلك (القائد الضرورة) الذي اسكن نصف شعبه ملكوت السماوات واحتفظ بالباقي رهائن في جحيم ارضه, دفاعاً عن الحدود التاريخية المقدسة (!). لا حدود والعلم... حفاضات ولكن هذا كله صار في ذمة التاريخ او يكاد, فالولايات المتحدة الامريكية اقامت امبراطوريتها حرباً وسلماً, ولاية بعد ولاية, ومن نيويورك على الساحل الشرقي الى لوس انجلوس على الساحل الغربي, وسواء قطعتها على مدى 15 يوماً بالسيارة, او على مدى خمس ساعات بالطائرة, فأنت لا تحتاج الى جواز سفر, أو استبدال العملة, أو العلم اذا كنت من هواة جمع الاعلام. وليست الحدود وحدها هي ما انهار امام الزمن الفيدرالي, بل ان علم الأمة بخطوطه ونجومه بدأ يفقد قدسية, فالكونجرس الامريكي مازال حائراً امام قضية العلم, اذ أن احدى الشركات صنعت ملابس داخلية, نصفها السفلي, يحمل صورة العلم الامريكي, من الامام والخلف, وفي الحالتين, فان المكان ربما لم يكن مناسباً, كما ان امريكيين آخرين يقومون بحرق علمهم الوطني احتجاجاً... ولم يحسم الكونجرس مسألة اذا ما كان الفاعل مجرماً, او يمارس حقه في التعبير وفقا للدستور الامريكي. ... وتلك كانت الارهاصات الأولى, ثم جاء دور اوروبا, وهي قبائل لم يشغلها على مدى نصف القرن الاخير سوى ان تتحارب فيما بينها, وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها في منتصف هذا القرن وبدأت الشعوب اعادة بناء ما دمرته الحروب وصف المؤرخون تلك المرحلة بأنها (استراحة المحاربين) , ولم تجد رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر حرجاً في دعوة عشرات المفكرين الى ندوة مغلقة تناقش احتمالات ان تقوم المانيا, بعد توحيدها, باشعال حرب جديدة في اوروبا... اوروبا و... نحن ولكن هذا ايضا صار في ذمة التاريخ, فأوروبا الموحدة قامت بالغاء الحدود فيما بينها أولاً, ثم قررت توحيد النقود, وبعد سنتين من نهاية هذا القرن, فان الاوروبي يستطيع ان ينتقل من اسبانيا الى انجلترا, مروراً بأوروبا, من دون ان يحمل جواز سفره او يضطر لاستبدال عملته. وتم تتويج هذا كله بتحرير التجارة وتوقيع اتفاقية (الجات) وملحقاتها مما جعل العالم كله قرية صغيرة, مع استثناءات, معظمها يقع في العالم الثالث, حيث حروب الحدود, وحروب القبائل, وحروب الثأر, ساخنة وباردة مازالت تعصف بشعوبها, وتقفل الحدود فيما بينها بخطوط استواء مزروعة بالألغام, وليس من قبيل الصدفة ان تكون علاقة الجزائر مع فرنسا اقتصادياً وسياسياً افضل من علاقتها مع جارتها المغرب, وان يعلن الرئيس الليبي معمر القذافي خروجه من العروبة شرقاً وغرباً وان يرحل بشعبه جنوباً... وأن تصرّ حكومة السودان الافريقية انها أقرب الى جمهورية ايران الآسيوية منها الى جارتها مصر العربية... القوة 17 ... ومع انهيار الحدود وتوحيد النقود يأتي الدور على القائد الذي فقد دوره. فالسيد اليورو الذي صار عملة اوروبا الموحدة يتمتع باستقلال مطلق عن جميع القادة السياسيين في أوروبا. ان البنك المركزي الاوروبي, بموجب معاهدة ماستريخت, يصادر حقوق السيادة النقدية للدول المشاركة, ويمنع القادة السياسيين في الدول المشاركة من التدخل في شؤونه. البنك يضم مجلساً تنفيذياً يرأسه حالياً الهولندي فيم داوسينبرج ويساعده فريق من أربعة أعضاء, كما يضم ايضا مجلس الحكام, وهذا المجلس يجمع حكام البنوك المركزية في الدول المشاركة وعددهم 11 حاكماً, وهؤلاء مع المجلس التنفيذي يشكلون أعلى سلطة نقدية في اوروبا, انهم بالعبارة السائدة في لبنان ايام الحرب الأهلية (القوة 17) , والمداولات التي تتم في نطاق هذه القوة سرية, والتصويت سري, وليس من حق أي سياسي ان يعرف ما اذا كان حاكم المصرف المركزي في بلده قد أعطى صوته لبلده ووطنه... أو لبلد عضو آخر. السرية و... الديمقراطية المقصود من قانون السرية هو حماية العضو المنتدب الى البنك المركزي من بطش السياسي في بلده او من محاولة رشوته واغوائه, ولتأكيد هذه الغاية, فان رئيس المصرف الاوروبي المركزي ينتخب لمدة ثماني سنوات غير قابلة للتجديد, اي انه لن يضطر الى مجاملة او الخضوع لاي ضغط على امل التجديد له, كما ان حكام البنوك بدورهم يتعاقدون مع البنك الاوروبي لمدة خمس سنوات, ومن هنا فان السرية من ناحية, وعدم حق الرئيس في التجديد من ناحية ثانية يحمي البنك من ضغوط القادة السياسيين, ويحول هذا البنك الى كهنوت مقدس يقيم صلاته في الخزائن وليس في الكنائس و... يبارك السيد اليورو. ... وعندما سئل الحاكم الهولندي فيم داوسينبرج كيف يستطيع ان يوفق بين قانون السرية وبين شفافية الديمقراطية التي تتمتع بها اوروبا, قال: لعلها لن تبقى سرية, وربما تسمح بالكشف عنها بعد 16 عاماً من وقوعها. ... والوحدة دائماً تحتاج الى تضحيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق