حكايات سياسية: بقلم- شوقي رافع - التاريخ: 22 يناير 1999
هل هناك اية قوة فوق الارض تستطيع ان تقف في وجهنا؟ السؤال لم
يطرحه جنرال عسكري تفترش صدره عشرات الاوسمة في غرفة العمليات الميدانية,
بل على العكس, كان صاحب السؤال رجلا ضئيلا يضع فوق عينيه نظارة بيضاء
سميكة, ويزين صدره بدبوس فضي, ينتهي في اعلاه بحرف (سي) . ساد الصمت القاعة
للحظات بعد طرح السؤال, تبادل المجتمعون النظرات, كانت السعادة تغمر
وجوههم, ولكنهم كانوا يحاولون كتمانها قدر الامكان, فالسعادة ليست مهنتهم,
ثم تمتم أحدهم بصوت خفيض, ولكنه حرص على ان يسمعه الجميع, قال برصانة (لعلّ
حلف الاطلسي وحده... لست متأكدا) وافترت ثغور المجتمعين عن ابتسامات كانت
اقصى ما يستطيعونه للتعبير عن شدة انفعالهم. حلف سيتي كورب حرف (سي)
فوق ياقة الرجل الضئيل, يعني (سيتي كورب) المؤسسة المالية الامريكية
العملاقة التي تلعب دور (الشريف) القادر على تأديب (الأوغاد) في شارع (وول
ستريت) , قلب الدولار النابض, وكان الرجل الضئيل قد فرغ لتوه من توقيع
معاهدة اكبر تحالف مالي, على مستوى الولايات المتحدة, وربما على مستوى
العالم كله, مع منافسه اللدود عبر القارات وهي مؤسسة (ترافلرز) , ويقضي
التحالف بدمج المؤسستين معاً, والاعلان عن قيام حلف مالي جديد يبسط ظله فوق
العالم كله. وبالطبع فإن الجنرالات في حلف الاطلسي لم يضحكوا للطرفة التي
اطلقها التحالف الجديد, فقد كانوا غارقين في ترقيع بزاتهم العسكرية, بعد ان
بليت في معارك نصف قرن, وهي عمر الحلف الاطلسي الذي قام في الاساس لحماية
(العالم الحر) من هجمات اهل (الستار الحديدي) في مجموعة حلف وارسو. الرهائن
في وارسو هل قلنا حلف وارسو؟ اذن لنقرأ معاً آخر تقرير من وارسو, كما ظهر
في صحيفة (هيرالد تريبيون) الدولية, قبل أسابيع. (تعيش وارسو مزاجا
استهلاكيا, فالجميع يريدون ان يعيشوا على الطريقة الغربية, ولكن قلة منهم
تملك بطاقات ائتمان تمكنها من شراء الغسالة والثلاجة والتلفزيون وحتى
السيارة بالتقسيط. أهل وارسو لا يعرفون الاقتراض, ومثلهم كل دول اوروبا
الشرقية. فالشيوعية كانت تعتبر القروض الاستهلاكية مثل شراء التلفزيون
بالتقسيط من شرور الرأسمالية, ولكن الشركات الامريكية مثل جنرال موتورز
وفورد تقدمان, بالاتفاق مع عدد من البنوك تسهيلات للمستهلكين, واذا استمرت
حمى الشراء في تصاعدها الحالي فإن أهل وارسو جميعا, وخلال فترة قياسية, سوف
يصبحون مدينين دائمين لدى الشركات الامريكية. وارسو صارت رهينة ليس لحلف
الاطلسي بدباباته وطائراته بل لشركة جنرال موتوز بثلاجاتها وتلفزيوناتها
وسياراتها. متاريس في الداخل لماذا يستمر حلف الاطلسي اذن؟ السؤال تطرحه
اوروبا هذه الايام بصوت خافت وهي تستعد للاحتفال بمرور نصف قرن على قيام
الحلف في ابريل المقبل, ولكن الاحتفال هو واجهة لاخفاء الصراعات فيما بين
الاعضاء المؤسسين, وهم انشقوا الى فريقين يقاتلون على كافة الجبهات, الفريق
الامريكي ومعه بريطانيا من ناحية يقفان في مواجهة الاعضاء الثلاثة عشر
الباقين, اما تركيا فإن جيبها مع اوروبا وبندقيتها مع امريكا. كل من
الفريقين يستعد للاحتفال المقبل باقامة المتاريس في مواجهة الآخر اما ميدان
المعركة وساحتها فهو الارض كلها. ولكن ماهو الموضوع الذي يقسم الحلف إلى
معسكرين؟ المصالح بالطبع و... السلاح. الولايات المتحدة تتهم اوروبا بأنها
بخيلة في تحديث سلاحها والكونجرس الامريكي يقول انه منح البنتاجون موازنة
تصل الى 270 مليار دولار في العام الماضي, بينما لم تخصص فرنسا ومعها
المانيا اكثر من 60 مليارا للنفقات الدفاعية, وترد اوروبا بالمقابل انها,
بعد انهيار المعسكر الشيوعي وغياب حلف وارسو لم يعد مهماً ان تجهز نفسها
للحرب, بل ان موسكو نفسها تشارك في اجتماعات الحلف (من أجل السلام) , ويضيف
زعماء اوروبا همسا فيما بينهم: ان موازنة الدفاع الامريكية هي الطبق
الذهبي للبنتاجون, يقدمه الى اعضاء الكونجرس, ليأخذ كل منهم حصته لانعاش
منطقته وارضاء ناخبيه, وقد قامت قيامة الكونجرس عندما بدأت شركات السلاح
مفاوضات للاندماج فيما بينها, وخرج احد اعضائه ليقول بالصوت الملآن: ان
عمليات الدمج في السابق أدت الى خسارة مليوني وظيفة, ولا نريد المزيد من
الدمج. ويضيف الاوروبيون: ان شركات الاسلحة تسيطر على الكونجرس, وبالتالي
فإن هذه الشركات ومعها الكونجرس تريد ان تحافظ على المستهلك الرئيسي وهو
الجيوش الامريكية, بينما نحن نفضل ان نتعامل مع الشركات المدنية, وعندما
نتعامل مع السلاح فإننا نعتبره بضاعة للتصدير الى الخارج... وهي مربحة
بحدود. قال الامريكي للفرنسي... اما اكثر مايثير قادة اوروبا فهو ان
جنرالات الولايات المتحدة خلال اجتماعات الحلف الاخيرة, كانوا بعد ان يلقوا
محاضراتهم حول الاخطار التي تهدد البشرية نتيجة انتشار الاسلحة البيولوجية
والكيماوية واسلحة الدمار الجماعي ينتهون الى القول: ان خلية ارهابية
واحدة قادرة على احداث دمار في اية عاصمة اوروبية يفوق الدمار الذي احدثته
القوات اليابانية في هجومها على بيرل هاربر, وبالتالي لابد ان يستعد قادة
الحلف لمواجهة هذه (الخلايا الارهابية) في ساحة تمتد على اتساع العالم. وفي
احد الاجتماعات الاخيرة للحلف, قال جنرال فرنسي لزميله الامريكي: ولكن
الحلف يملك ما يكفي من الطائرات والدبابات وحاملات الطائرات والسفن الحربية
لمواجهة تلك الخلايا الارهابية... هل تعتقدون اننا نحتاج الى انتاج
المزيد؟ ورد الجنرال الامريكي. لا. بالتأكيد, انتم تملكون مافيه الكفاية,
ولكن مواجهة الخلايا الارهابية يحتاج الى سلاح لا تملكونه, انه يحتاج الى
أنظمة حديثة من الرادارات واجهزة الارسال والرصد والتنصت وهي ليست متوفرة
لديكم, ولا خيار امامكم الا ان تشتروها من شركاتنا, وربما تشكون من انها
مرتفعة الثمن, ولكن لا يجب ان يغيب لحظة عن بالكم ان دافع الضرائب الامريكي
هو من دفع ثمن تطوير هذه الانظمة الجديدة من الاسلحة الحديثة. قال
الفرنسي: هل تطرحون اذن الحلف للبيع؟ ... وعض على نواجذه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق