الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ: 20 يوليو 2001
ربما يكون الإنسان ساذجا إذا حاول الفصل بين الجريمة
والاقتصاد، ولكنه بالتأكيد سوف يكون أبلهاً إذا حاول الفصل بين الاقتصاد
والسياسة ... وفي عالمنا العربي فإننا نحاول الاثنين معا. رجل الأعمال
الياباني جوجي أوبارا يمثل اليوم أمام المحكمة بتهمة ارتكاب (400) جريمة
اغتصاب، بالاضافة إلى جريمتي قتل. آخر ضحاياه هي البريطانية لوسي بلاكمان،
وقد عثر على جثتها في كهف قرب قصره، مقطعة إلى ثمانية أجزاء. يقع قصر
أوبارا على الشاطئ ويصل ثمنه إلى (17) مليون جنيه استرليني، والقصر اليوم
مهمل، رجال التحقيق عثروا بين ممتلكات أوبارا على (4800) شريط فيديو، يظهر
فيها وهو يقوم باغتصاب ضحاياه، وعثروا أيضا على تمثال ضخم لكلب من نوع
«شيبرد» الألماني، وعثروا ثالثا على جثة لكلب من النوع نفسه مجمدة في احدى
الثلاجات، بانتظار استنساخها في المستقبل، وعثروا أخيرا على كميات كبيرة من
الأدوية ومن الحبوب المخدرة، يقول المحققون انه كان يضعها في كأس الضحية،
فيغلبها النعاس، وعندئذ يبدأ باغتصابها.
أوبارا (48 سنة) كان تاجر عقارات، يلعب على التوقعات وفي الوقت نفسه يؤمن بأن العلم والتكنولوجيا والطب الحديث قادرة على تغيير شكل وحياة الإنسان وبالتفاصيل، كان ينتعل حذاء بكعب عال لانه كان قصيرا، وقام بعملية تجميل لعينيه فصارتا أكثر اتساعا، وحشد في قصره كل أنواع السيارات الفارهة من بنتلي إلى الرولز رايس. تجسيد لاقتصاد الفقاعة؟ قال المدعي العام الياباني في مرافعته أمام المحكمة: لم تعد اليابان ولا أوبارا كما كانتا قبل عقد من الزمن. ان أوبارا هو رمز حي لكل ما حققته اليابان على صعيد النجاح ثم الفشل. وتضيف صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية بنقد مكشوف: ان أوبارا هو تجسيد لاقتصاد الفقاعة الياباني، انه يعيش على التوقعات، وفي مرحلة الثمانينيات تضاعفت أسعار الأراضي عدة مرات، وضرب الين وأسعار الأسهم أرقاما قياسية، وصار باستطاعة الياباني الناجح أن يملأ جدران منزله بلوحات الانطباعيين الفرنسيين غالية الثمن. هل هناك علاقة بين ارتفاع وسقوط الاقتصاد الياباني وبين جرائم أوبارا؟ السؤال مازال مطروحا أمام المحكمة التي يتابع اليابانيون تفاصيلها بذهول. جرائم الشرف في لبنان السؤال نفسه تقريبا طرح في لبنان، قبل حوالي ربع قرن، وكان نصه كالتالي: هل هناك علاقة تربط بين جرائم الشرف وبين الوضع المادي للإنسان؟ الدكتور مصطفى حجازي استاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية قام بالرد على هذا السؤال من خلال دراسة ميدانية قام بها في منطقة البقاع. حيث تتكاثر جرائم الشرف، وتبين له من خلال الدراسة ان جريمة الشرف هي الأوسع انتشارا بين العمال الزراعيين، أي الذين لا يملكون غالبا سوى قوة عملهم، فهم يقيمون في منازل بالايجار، ويعملون بنظام المرابحـة في الأراضي، ويحصلون على جزء من انتاجها، بينما الجزء الأكبر يذهب لصاحب الأرض. ويقول الدكتور حجازي ان السلطة الوحيدة التي يملكها العامل الزراعي تكون على زوجته أو شقيقته أو ابنته أو أمه، ويدافع العامل عن هؤلاء باعتبارهن الملكية الوحيدة التي يستحوذ عليها، وهو لا يتحمل أي شبهة في وجود من يريد أن يقاسمه هذه الملكية أو يحاول ذلك. انها أرضه المقدسة ولا يمكن لأحد أن يطأها إلا بإذنه. وكما كان أمراء الاقطاع يخوضون الحروب دفاعا عن ملكياتهم وأراضيهم فان العمال الزراعيين كانوا يخوضون حروبا أشد شراسة وفتكا دفاعا عن اقطاعياتهم النسائية. كانوا يقتلون على الشبهة وكانت حروبهم دائما مسألة حياة أو موت. وكان هذا جزءا من الاجابة لماذا القتل في المدن أقل؟ الجزء الآخر تابعه كاتب هذه السطور في بحث أرشيفي شمل مخافر الشرطة والصحف اللبنانية الصادرة خلال العام (1974) وكان السؤال هو التالي: لماذا جرائم الشرف أقل انتشارا في المدن، مع ان سكان المدن هم أكثر عرضة للغواية والانحراف من سكان الريف، مع التأكيد على ان معظم سكان العاصمة اللبنانية هم من أصول ريفية؟ الاجابة، قدر ما تسعفني الذاكرة، شملت (35) حالة، ضبط فيها الزوج أو الأب أو الشقيق أو الزوجة أو الابنة أو الشقيقة مع رجل آخر في أوضاع ومواقف اما متلبسة أو تثير الكثير من الشبهات، وفي خمس حالات فقط، وقعت محاولات قتل غير ناجحة: لم يكن السلاح متوفرا بكثرة في ذلك الوقت، وفي باقي الحالات كان هناك اعتداء بالضرب أو اللجوء إلى المخفر ومن ثم إلى المحكمة طلبا للطلاق أو لمعاقبة الفاعل. وعندما سألت أحد القضاة يومئذ عن سر هذه العقلانية في التعامل مع حالات الخيانة الزوجية مثلا، قال: ليس هناك اجابة حاسمة، ولكن اذا شئنا تبسيط هذه المسألة فانك سوف تجد ان معظم هؤلاء الرجال هم من الموظفين الذين ينعمون بوظيفة آمنة ويتقاضون راتبا في آخر الشهر، أو من التجار ... أما اذا كانوا من العمال أو ممن تقطعت بهم السبل بعد وصولهم من الريف فانك سوف تعثر عليهم في ملفات الجرائم وليس في ملفات الجنح. يعني انهم لن يكونوا متسامحين، وغالبا ما يقتلون. إذن، ان محاولة الفصل بين الجريمة وبين الوضع الاقتصادي لمرتكبها تبدو أقرب إلى السذاجة. أقدم مهنة في التاريخ ولكن ماذا عن الفصل بين الاقتصاد والسياسة؟ مسئول عربي، دعا قبل أيام، وعلى هامش مؤتمر منظمة التجارة العالمية الذي سوف يعقد في الدوحة، إلى «عدم تسييس المؤتمر، فهو مؤتمر اقتصادي أساسا» وأكد على ضرورة الفصل بين «المواقف السياسية المبدئية ... وبين مؤتمر تنحصر أعماله في القضايا الاقتصادية». وقد أخطأ المسئول مرة واحدة على الأقل. إذ ان مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، سواء كنا معها أو ضدها، لم تنعقد مرة إلا ورافقتها تظاهرات سياسية تمتزج بالعنف غالبا، وأحداث مدينة سياتل الأمريكية، مازالت ماثلة في الأذهان، وقد نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تقريرا يومئذ على هامش المؤتمر، نسبت فيه إلى مسئول أمريكي قوله: «اننا لا نقبل أن يزج المتظاهرون هذا المؤتمر في أتون السياسة، انه مؤتمر اقتصادي أولا»، وانتهى التقرير إلى القول: ان هذا يعيدنا إلى أقدم مهنة في التاريخ. عندما تحاول المرأة الفصل بين جسدها و.. مهنتها». بقلم: شوقي رافع
أوبارا (48 سنة) كان تاجر عقارات، يلعب على التوقعات وفي الوقت نفسه يؤمن بأن العلم والتكنولوجيا والطب الحديث قادرة على تغيير شكل وحياة الإنسان وبالتفاصيل، كان ينتعل حذاء بكعب عال لانه كان قصيرا، وقام بعملية تجميل لعينيه فصارتا أكثر اتساعا، وحشد في قصره كل أنواع السيارات الفارهة من بنتلي إلى الرولز رايس. تجسيد لاقتصاد الفقاعة؟ قال المدعي العام الياباني في مرافعته أمام المحكمة: لم تعد اليابان ولا أوبارا كما كانتا قبل عقد من الزمن. ان أوبارا هو رمز حي لكل ما حققته اليابان على صعيد النجاح ثم الفشل. وتضيف صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية بنقد مكشوف: ان أوبارا هو تجسيد لاقتصاد الفقاعة الياباني، انه يعيش على التوقعات، وفي مرحلة الثمانينيات تضاعفت أسعار الأراضي عدة مرات، وضرب الين وأسعار الأسهم أرقاما قياسية، وصار باستطاعة الياباني الناجح أن يملأ جدران منزله بلوحات الانطباعيين الفرنسيين غالية الثمن. هل هناك علاقة بين ارتفاع وسقوط الاقتصاد الياباني وبين جرائم أوبارا؟ السؤال مازال مطروحا أمام المحكمة التي يتابع اليابانيون تفاصيلها بذهول. جرائم الشرف في لبنان السؤال نفسه تقريبا طرح في لبنان، قبل حوالي ربع قرن، وكان نصه كالتالي: هل هناك علاقة تربط بين جرائم الشرف وبين الوضع المادي للإنسان؟ الدكتور مصطفى حجازي استاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية قام بالرد على هذا السؤال من خلال دراسة ميدانية قام بها في منطقة البقاع. حيث تتكاثر جرائم الشرف، وتبين له من خلال الدراسة ان جريمة الشرف هي الأوسع انتشارا بين العمال الزراعيين، أي الذين لا يملكون غالبا سوى قوة عملهم، فهم يقيمون في منازل بالايجار، ويعملون بنظام المرابحـة في الأراضي، ويحصلون على جزء من انتاجها، بينما الجزء الأكبر يذهب لصاحب الأرض. ويقول الدكتور حجازي ان السلطة الوحيدة التي يملكها العامل الزراعي تكون على زوجته أو شقيقته أو ابنته أو أمه، ويدافع العامل عن هؤلاء باعتبارهن الملكية الوحيدة التي يستحوذ عليها، وهو لا يتحمل أي شبهة في وجود من يريد أن يقاسمه هذه الملكية أو يحاول ذلك. انها أرضه المقدسة ولا يمكن لأحد أن يطأها إلا بإذنه. وكما كان أمراء الاقطاع يخوضون الحروب دفاعا عن ملكياتهم وأراضيهم فان العمال الزراعيين كانوا يخوضون حروبا أشد شراسة وفتكا دفاعا عن اقطاعياتهم النسائية. كانوا يقتلون على الشبهة وكانت حروبهم دائما مسألة حياة أو موت. وكان هذا جزءا من الاجابة لماذا القتل في المدن أقل؟ الجزء الآخر تابعه كاتب هذه السطور في بحث أرشيفي شمل مخافر الشرطة والصحف اللبنانية الصادرة خلال العام (1974) وكان السؤال هو التالي: لماذا جرائم الشرف أقل انتشارا في المدن، مع ان سكان المدن هم أكثر عرضة للغواية والانحراف من سكان الريف، مع التأكيد على ان معظم سكان العاصمة اللبنانية هم من أصول ريفية؟ الاجابة، قدر ما تسعفني الذاكرة، شملت (35) حالة، ضبط فيها الزوج أو الأب أو الشقيق أو الزوجة أو الابنة أو الشقيقة مع رجل آخر في أوضاع ومواقف اما متلبسة أو تثير الكثير من الشبهات، وفي خمس حالات فقط، وقعت محاولات قتل غير ناجحة: لم يكن السلاح متوفرا بكثرة في ذلك الوقت، وفي باقي الحالات كان هناك اعتداء بالضرب أو اللجوء إلى المخفر ومن ثم إلى المحكمة طلبا للطلاق أو لمعاقبة الفاعل. وعندما سألت أحد القضاة يومئذ عن سر هذه العقلانية في التعامل مع حالات الخيانة الزوجية مثلا، قال: ليس هناك اجابة حاسمة، ولكن اذا شئنا تبسيط هذه المسألة فانك سوف تجد ان معظم هؤلاء الرجال هم من الموظفين الذين ينعمون بوظيفة آمنة ويتقاضون راتبا في آخر الشهر، أو من التجار ... أما اذا كانوا من العمال أو ممن تقطعت بهم السبل بعد وصولهم من الريف فانك سوف تعثر عليهم في ملفات الجرائم وليس في ملفات الجنح. يعني انهم لن يكونوا متسامحين، وغالبا ما يقتلون. إذن، ان محاولة الفصل بين الجريمة وبين الوضع الاقتصادي لمرتكبها تبدو أقرب إلى السذاجة. أقدم مهنة في التاريخ ولكن ماذا عن الفصل بين الاقتصاد والسياسة؟ مسئول عربي، دعا قبل أيام، وعلى هامش مؤتمر منظمة التجارة العالمية الذي سوف يعقد في الدوحة، إلى «عدم تسييس المؤتمر، فهو مؤتمر اقتصادي أساسا» وأكد على ضرورة الفصل بين «المواقف السياسية المبدئية ... وبين مؤتمر تنحصر أعماله في القضايا الاقتصادية». وقد أخطأ المسئول مرة واحدة على الأقل. إذ ان مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، سواء كنا معها أو ضدها، لم تنعقد مرة إلا ورافقتها تظاهرات سياسية تمتزج بالعنف غالبا، وأحداث مدينة سياتل الأمريكية، مازالت ماثلة في الأذهان، وقد نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تقريرا يومئذ على هامش المؤتمر، نسبت فيه إلى مسئول أمريكي قوله: «اننا لا نقبل أن يزج المتظاهرون هذا المؤتمر في أتون السياسة، انه مؤتمر اقتصادي أولا»، وانتهى التقرير إلى القول: ان هذا يعيدنا إلى أقدم مهنة في التاريخ. عندما تحاول المرأة الفصل بين جسدها و.. مهنتها». بقلم: شوقي رافع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق