الملف السياسي ـ التاريخ: 21 سبتمبر 2001
«مع كل هؤلاء الغرباء من حولنا... كيف يمكن أن نشعر بالأمن؟».
قالتها سيّدة من الجنوب الأمريكي في برنامج تلفزيوني عرضته شبكة «فوكس»
الأسبوع الماضي. والعبارة تلخّص 20 عاماً من عمر «الإرهاب» في الولايات
المتحدة. أمريكا تغيّرت وكذلك أهلها. وصلتُ أمريكا قادماً من الإمارات في
مطلع العام 1980، حصلت على التأشيرة من السفارة الأمريكية في أبوظبي، في
خلال 30 دقيقة بعد ملء الاستمارة ومقابلة المسئول في إدارة الهجرة. كانت
أوراقي تقول إنني مراسل صحافي معتمد لدى صحيفتين عربيتين: لبنانية
وإماراتية، ودعني المسئول الأمريكي بودّ شديد وابتسامة واسعة، قال: أستطيع
أن أضمن لك شيئاً واحداً وهو أنك حرّ في أن تكتب ما تشاء.
أمريكا بلاد الحرية». في المطار في واشنطن أرشدني ضابط الهجرة إلى الإجراءات التي يجب أن اتخذها كي أحصل على البطاقة الصحافية ومنحني إقامة سنة واحدة. كنت أحمل جواز سفر لبنانياً، ولبنان في تلك الفترة كان قد تحوّل إلى متاريس وخطوط تماس. ولكن أحداً لم حقق معي، أو يقوم بتفتيش حقائبي. وفي خلال أسبوع حصلت على بطاقة صحافية كمراسل أجنبي وعلى تصريح دخول من وزارة الخارجية ومن البيت الأبيض والبنتاجون. مغامرة في الخارجية الأمريكية مغامرتي الأولى في أرض الحرية كانت في وزارة الخارجية فقد كنت أقوم بتحقيق عن ميليشيا الضابط اللبناني المنشق في جنوب لبنان سعد حداد وعن جمهورية لبنان الحر التي أقامتها إسرائيل في الشريط العازل، تحدثت مع مسئول مكتب لبنان في الخارجية السيد دافيد ويل لمدة ساعتين، كان السؤال الرئيسي هو أن هناك عشرة أمريكيين على الأقل يعملون في جنوب لبنان مع سعد حداد لإقامة محطة تلفزيونية باسم «صوت الأمل»، فما هو موقف الإدارة الأمريكية من هؤلاء؟ السيد ويل أعطاني حزمة من القصاصات الصحافية والوثائق حول هذا الموضوع، قال: من حق الحكومة اللبنانية أن تقاضي هؤلاء الأمريكيين، ومن بينهم القس جورج أوثيس، وفي نهاية الحوار، قال وهو يودعني: تعرف أنّ ما تحدثنا به هو (لُْكمز مو نند) أي ليس للنشر ولكن للمعلومات، مع تجنب نشر أي اسم. ولكنني مثل أي قروي يحب بلاده، اعتبرت أن القضية وطنية ومصيرية، فتجاهلت شروط اللعبة وآداب المهنة ونشرت التحقيق موسعاً في الصحيفتين، إحداهما «السفير» اللبنانية، ونشرت الأسماء أيضاً. في اليوم التالي للنشر، انهمرت علي المكالمات الهاتفية من الزملاء يسألون عمّا فعلته لوزارة الخارجية، الزميل باسم المعلم، وهو مراسل عتيق ومخضرم، قال: إن الخارجية الأمريكية اتصلت بعدد من الصحافيين العرب، تسألهم عني، وانتهى حديثه قائلاً: بعد اليوم لن تجد في وزارة الخارجية من يتحدث معك. وبالصدفة التقيت بعد أيام في السوبر ماركت القريب من منزلي بالسيد دافيد ويل، عندما التقت نظراتنا ازدادت حمرة وجهه، قال: كيف فعلتها؟ ومضى دون أن ينتظر الإجابة. وعندما طلبت مقابلة مسئول مكتب لبنان في الخارجية، بعد مرور شهر على الحادثة، توقعت أن يكون الجواب بالرفض، ولكنني فوجئت بالموافقة. وعندما دخلت المكتب كانت سيّدة تجلس خلفه، فقد تم نقل السيد ويل من موقعه، وخسر «العروبيون» في الخارجية الأمريكية زميلاً بينما خسرت صديقاً. .. وثانية في مطار نيويورك في عام 1982 قررت القيام بجولة في جمهوريات أمريكا الوسطى: السيلفادرو، جواتيمالا، نيكاراجوا، وكانت كلها تغلي بالثورات، المحطة الأولى كانت السيلفادور، وكانت الخارجية الأمريكية تشجع الصحافيين على تغطية أول انتخابات ديمقراطية فيها. ركبت الطائرة من مطار «ناشيونال» في واشنطن ـ مطار ريجان حالياً ـ وهبطت الطائرة بعد ساعة في مطار جون كيندي في نيويورك. والمطار هو أقرب إلى مدينة كبيرة، استقليت تاكسي بعد أن أبلغت السابق وجهة سفري، فوضعني أمام «التيرمينال ء» دخلت من البوابة وسألت الاستعلامات عن حجوزات السفر الى السيلفادور، قالت الفتاة: أخطأت المكان، عليك أن تسافر الى «التيرمينال » سألتها: من أية جهة أذهب؟ قالت: بالتاكسي أم ركضاً على الأقدام؟ أصابتني الحيرة، سألت: أيهما أسرع؟ قالت: ركضاً... وفي هذا الاتجاه. لم يكن لديّ أكثر من 30 دقيقة لتأكيد الحجز والصعود الى الطائرة، وهكذا حملت حقيبتي الصغيرة وبدأت أركض، اجتزت عشرات الممرات وصالات الركاب، وفي الطريق كنت أتابع السؤال عن التيرمينال الموعود، إلى أن فوجئت أخيراً بأبواب مغلقة في نهاية أحد الممرات، وقربه درج يتحرك صعوداً فقط «اسكليتر»، اندفعت الى الدرج هبوطاً، أي بعكس السير، وتابعت راكضاً في الممرات الى أن فوجئت بخمسة من ضباط الهجرة يخرجون من الكبائن المخصصة لهم ويركضون نحوي، توقفت، وبادرتهم بالسؤال: من فضلكم أين «التيرمينال »؟ ولوّحت بتذكرة السفر في يدي. هجم أحدهم على الحقيبة، وقال بحزم: ماذا لديك في هذه الحقيبة؟ قلت: ملابسي، وفتحتها على اتساعها، سأل: هل أنت مسافر؟ قلت: نعم. لتغطية انتخابات السيلفادور، فأنا مراسل صحافي، والطائرة سوف تقلع بعد قليل، أنظر لم يبق لديّ أكثر من دقائق. تبادل ضباط الهجرة النظرات فيما بينهم، ثم قال أحدهم: هل تستطيع أن تدلنا كيف وصلت الى هذه النقطة، من غير أن يوقفك أحد؟ قلت: ليتني أعرف، فأنا أركض منذ ربع ساعة، إذا شئت هذه بطاقتي وفيها أرقام تلفوني، ويمكن أن نتحدث بعد عودتي. قال الضابط: لا أريد بطاقتك اللعينة، ولكن أتعرف.. لقد اخترقت النظام الأمني في المطار.. هيا، تابع طريقك في هذا الاتجاه ولن تفوتك الطائرة. كانت الولايات المتحدة متسامحة وأرضاً للحرية في مطلع الثمانينيات، ثم أعلنت إدارة الرئيس رونالد ريجان أن الرئيس الليبي معمر القذافي أطلق «فريق الموت» باتجاه الأراضي الأمريكية... وبدأ الحديث يتصاعد عن الإرهاب الذي غيّر وجه أمريكا. ... وللحديث صلة. بقلم: شوقي رافع
أمريكا بلاد الحرية». في المطار في واشنطن أرشدني ضابط الهجرة إلى الإجراءات التي يجب أن اتخذها كي أحصل على البطاقة الصحافية ومنحني إقامة سنة واحدة. كنت أحمل جواز سفر لبنانياً، ولبنان في تلك الفترة كان قد تحوّل إلى متاريس وخطوط تماس. ولكن أحداً لم حقق معي، أو يقوم بتفتيش حقائبي. وفي خلال أسبوع حصلت على بطاقة صحافية كمراسل أجنبي وعلى تصريح دخول من وزارة الخارجية ومن البيت الأبيض والبنتاجون. مغامرة في الخارجية الأمريكية مغامرتي الأولى في أرض الحرية كانت في وزارة الخارجية فقد كنت أقوم بتحقيق عن ميليشيا الضابط اللبناني المنشق في جنوب لبنان سعد حداد وعن جمهورية لبنان الحر التي أقامتها إسرائيل في الشريط العازل، تحدثت مع مسئول مكتب لبنان في الخارجية السيد دافيد ويل لمدة ساعتين، كان السؤال الرئيسي هو أن هناك عشرة أمريكيين على الأقل يعملون في جنوب لبنان مع سعد حداد لإقامة محطة تلفزيونية باسم «صوت الأمل»، فما هو موقف الإدارة الأمريكية من هؤلاء؟ السيد ويل أعطاني حزمة من القصاصات الصحافية والوثائق حول هذا الموضوع، قال: من حق الحكومة اللبنانية أن تقاضي هؤلاء الأمريكيين، ومن بينهم القس جورج أوثيس، وفي نهاية الحوار، قال وهو يودعني: تعرف أنّ ما تحدثنا به هو (لُْكمز مو نند) أي ليس للنشر ولكن للمعلومات، مع تجنب نشر أي اسم. ولكنني مثل أي قروي يحب بلاده، اعتبرت أن القضية وطنية ومصيرية، فتجاهلت شروط اللعبة وآداب المهنة ونشرت التحقيق موسعاً في الصحيفتين، إحداهما «السفير» اللبنانية، ونشرت الأسماء أيضاً. في اليوم التالي للنشر، انهمرت علي المكالمات الهاتفية من الزملاء يسألون عمّا فعلته لوزارة الخارجية، الزميل باسم المعلم، وهو مراسل عتيق ومخضرم، قال: إن الخارجية الأمريكية اتصلت بعدد من الصحافيين العرب، تسألهم عني، وانتهى حديثه قائلاً: بعد اليوم لن تجد في وزارة الخارجية من يتحدث معك. وبالصدفة التقيت بعد أيام في السوبر ماركت القريب من منزلي بالسيد دافيد ويل، عندما التقت نظراتنا ازدادت حمرة وجهه، قال: كيف فعلتها؟ ومضى دون أن ينتظر الإجابة. وعندما طلبت مقابلة مسئول مكتب لبنان في الخارجية، بعد مرور شهر على الحادثة، توقعت أن يكون الجواب بالرفض، ولكنني فوجئت بالموافقة. وعندما دخلت المكتب كانت سيّدة تجلس خلفه، فقد تم نقل السيد ويل من موقعه، وخسر «العروبيون» في الخارجية الأمريكية زميلاً بينما خسرت صديقاً. .. وثانية في مطار نيويورك في عام 1982 قررت القيام بجولة في جمهوريات أمريكا الوسطى: السيلفادرو، جواتيمالا، نيكاراجوا، وكانت كلها تغلي بالثورات، المحطة الأولى كانت السيلفادور، وكانت الخارجية الأمريكية تشجع الصحافيين على تغطية أول انتخابات ديمقراطية فيها. ركبت الطائرة من مطار «ناشيونال» في واشنطن ـ مطار ريجان حالياً ـ وهبطت الطائرة بعد ساعة في مطار جون كيندي في نيويورك. والمطار هو أقرب إلى مدينة كبيرة، استقليت تاكسي بعد أن أبلغت السابق وجهة سفري، فوضعني أمام «التيرمينال ء» دخلت من البوابة وسألت الاستعلامات عن حجوزات السفر الى السيلفادور، قالت الفتاة: أخطأت المكان، عليك أن تسافر الى «التيرمينال » سألتها: من أية جهة أذهب؟ قالت: بالتاكسي أم ركضاً على الأقدام؟ أصابتني الحيرة، سألت: أيهما أسرع؟ قالت: ركضاً... وفي هذا الاتجاه. لم يكن لديّ أكثر من 30 دقيقة لتأكيد الحجز والصعود الى الطائرة، وهكذا حملت حقيبتي الصغيرة وبدأت أركض، اجتزت عشرات الممرات وصالات الركاب، وفي الطريق كنت أتابع السؤال عن التيرمينال الموعود، إلى أن فوجئت أخيراً بأبواب مغلقة في نهاية أحد الممرات، وقربه درج يتحرك صعوداً فقط «اسكليتر»، اندفعت الى الدرج هبوطاً، أي بعكس السير، وتابعت راكضاً في الممرات الى أن فوجئت بخمسة من ضباط الهجرة يخرجون من الكبائن المخصصة لهم ويركضون نحوي، توقفت، وبادرتهم بالسؤال: من فضلكم أين «التيرمينال »؟ ولوّحت بتذكرة السفر في يدي. هجم أحدهم على الحقيبة، وقال بحزم: ماذا لديك في هذه الحقيبة؟ قلت: ملابسي، وفتحتها على اتساعها، سأل: هل أنت مسافر؟ قلت: نعم. لتغطية انتخابات السيلفادور، فأنا مراسل صحافي، والطائرة سوف تقلع بعد قليل، أنظر لم يبق لديّ أكثر من دقائق. تبادل ضباط الهجرة النظرات فيما بينهم، ثم قال أحدهم: هل تستطيع أن تدلنا كيف وصلت الى هذه النقطة، من غير أن يوقفك أحد؟ قلت: ليتني أعرف، فأنا أركض منذ ربع ساعة، إذا شئت هذه بطاقتي وفيها أرقام تلفوني، ويمكن أن نتحدث بعد عودتي. قال الضابط: لا أريد بطاقتك اللعينة، ولكن أتعرف.. لقد اخترقت النظام الأمني في المطار.. هيا، تابع طريقك في هذا الاتجاه ولن تفوتك الطائرة. كانت الولايات المتحدة متسامحة وأرضاً للحرية في مطلع الثمانينيات، ثم أعلنت إدارة الرئيس رونالد ريجان أن الرئيس الليبي معمر القذافي أطلق «فريق الموت» باتجاه الأراضي الأمريكية... وبدأ الحديث يتصاعد عن الإرهاب الذي غيّر وجه أمريكا. ... وللحديث صلة. بقلم: شوقي رافع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق