الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ:
24 أغسطس 2001
«إن العناصر الأمنية باللباس المدني التي اعتدت بالضرب والركل
على المواطنين أمام قصر العدل لم تكن مرتبطة بوزارة الداخلية بل بمخابرات
الجيش». هذه العبارات نسبتها صحيفة «النهار» اللبنانية الى وزير الداخلية
إلياس المر، وقالها خلال اجتماع لمجلس الوزراء، كي يطمئن المواطنون إلى ان
ما يهدد حرياتهم هي المخابرات المدنية التابعة للعسكر وليس للسلطة
التنفيذية، ولعل هناك فرقا بين الاثنين. هنا حكايات شخصية عن المخابرات
المدنية وقصصها وهي تتكرر منذ 40 عاماً.
دمشق ـ 1960: كان قد مضى على اعلان الانفصال عن مصر وخروج سوريا من الجمهورية العربية المتحدة عدة اسابيع لم تتوقف خلالها التظاهرات في المدن السورية، منددة بالشركة الخماسية التي قامت بتمويل الانفصاليين، هاتفة بسقوط الضباط الستة الذين قادوا الانقلاب ومطالبة بعودة الوحدة بين سوريا ومصر. كنت حينئذ طالبا في المرحلة الثانوية، وكانت الاستعدادات قد تمت لانطلاق تظاهرة كبرى من امام مبنى البرلمان السوري في منطقة الصالحية. وبدأ المتظاهرون يتوافدون من كل المناطق والمدن والقرى، وعندما بلغت الساعة الثانية عشرة ظهراً كانت الحشود تقدر بعدة آلاف، بينما كانت شاحنات الجيش والشرطة تقذف بالمزيد من الجنود وقوات الأمن حول مبنى البرلمان وفي الطريق إليه، لتقطع الطريق على أي تحرك باتجاهه. في الصف الى جانبي كان تيسير قبعة، احد قيادات الجبهة الشعبية اليوم، محمولا على الاكتاف يهتف: بالروح بالدم نفديك يا جمال، وكان المتظاهرون مع كل هتاف يزدادون سخونة وحماسة، ثم قررت قيادة التظاهرة أن تتحرك باتجاه مبنى البرلمان. كانت المواجهة مع قوات الأمن محتومة، وكانت الأيدي متشابكة تشد على بعضها وكل منا يحاول ان يستمد القوة من الآخر، وعندما اقتربت التظاهرة من حواجز الجيش وقوى الامن قرب مبنى البرلمان ولم يعد يفصلها عنها سوى عدة امتار، كانت هتافات الجموع تشق عنان السماء وصور جمال عبدالناصر تتحول الى غابة يتردد هديرها في كل صوب، وحانت ساعة المواجهة. اطلقت قوات الأمن سيلا من الرصاص في الهواء قبل ان تبدأ اندفاعها باتجاه المتظاهرين، ووقع هرج ومرج كبيرين، واختلط الحابل بالنابل، وفجأة كان «الشباب» الذين يحملون تيسير قبعة على اكتافهم يندفعون باتجاه شاحنة عسكرية مدججة بالجنود و... يقذفون تيسير قبعة الى داخلها ليلتقطه الجنود وينهالوا عليه ضربا، للحظة صعقت ولم اصدق ما شاهدت، ولكن مع عودة «الشباب» برفقة بعض الجنود لتعقب المتظاهرين اكتشفت ان الشباب كانوا من جهاز المخابرات بملابس مدنية، اندسوا بين المتظاهرين ونجحوا في القبض على اكثر من قيادي.. وركضت لا ألوي على شيء. قبرص واغتيال السباعي قبرص ـ 1978: وصلت الى الجزيرة قادما من لندن لتغطية محاكمة قتلة الكاتب ووزير الاعلام المصري الراحل يوسف السباعي، كنت اعمل مديراً لتحرير جريدة «المنار» وصاحبها الزميل رياض نجيب الريس. استقطبت المحاكمة اهتمام وسائل الاعلام العربية والدولية، وكان مئات من الاعلاميين يحتشدون امام بوابة المحكمة في نيقوسيا ويتناثرون في ممراتها الداخلية، وكنت منذ وقت مبكر قد اكتشفت موقعا استراتيجيا يقع قرب القاعة التي ستشهد المحاكمة، وكان لابد للمتهمين الشابين ان يمرا من امامي قبل دخول القاعة، ولعل الفرصة تسنح لتبادل عدة عبارات تصلح كـ«مانشيت». وصحّ ما توقعته وعندما وصل الشابان قربي يحيط بهما ستة من رجال الشرطة قلت: مرحبا يا شباب. هل صحيح ان هناك قائمة باغتيالات اخرى للمتفاوضين مع اسرائيل؟ ابتسم احدهما وكأنه استأنس بسماع من يتكلم العربية في تلك الغابة من الاجانب، وهز رأسه ايجابا عدة مرات من دون ان يتوقف، وشعرت للحظات، تحت انظار رجال الشرطة بالتواطؤ مع المتهمين الشابين، وعندما دخلا القاعة، ركضت خلفهما لاجلس في اقرب مقعد من قفص الاتهام، وأتبادل معهما نظرات متعاطفة. بدأت المحاكمة وكانت هناك سيدة تقوم بترجمة اقوال المتهمين من العربية الى الانجليزية، احدهما قرر ان يلقي خطبة عصماء في محاربة التطبيع مع اسرائيل العدو التاريخي للعرب، ودعا لاستئصال الخونة من العالم العربي، وقامت السيدة بترجمة كلمة استئصال بكلمة اغتيال بالانجليزية، وهنا قلت محتجا موجها حديثي الى الشاب: عفوا انت قلت استئصال ولكن السيدة ترجمتها الى اغتيال، هل هذا ما تقصده؟ رد الشاب؟ انا لم اقل اغتيال، قلت استئصال، وكانت تلك آخر عبارة سمعتها، اذ ان الرجلين عن يميني ويساري، وقفا وحملاني حملا الى خارج القاعة، ومنها الى غرفة الأمن، حيث خضعت لاستجواب مطول قام به ضابط قبرصي يوناني، وعندما ابلغته انني شاركت في وضع كتاب عن قبرص صدر في بيروت، ويحمل غلافه صورة المطران مكاريوس قال: هذا يكفي، ثم ابتسم وافرج عني، ولكن بعد ان انتهت جلسة المحاكمة. جواتيمالا والشاب الأنيق جواتيمالا ـ 1982: كنت اقوم بجولة في امريكا الوسطى لحساب وكالة «بان آراب برس» التي كنت ارأس تحريرها في واشنطن. بدأت الجولة في السيلفادور التي كانت تخوض اول انتخابات برلمانية، برعاية امريكية، بعد الاعلان عن نهاية الحرب الاهلية التي قادها ثوار «الفاربوند ومارتي» ضد الحكم العسكري. قمت بتغطية الانتخابات التي فاز فيها مرشح الامريكيين الرئيس ديوارته، ومعه قاتل الراهبات الأمريكيات «دوبيسوت» وقابلت قيادات الثوار، وعندما ركبت الطائرة الى جواتيمالا كنت مشبعا بالديمقراطية، وأحمل معي سيفا يسمونه «الماتشو» اشتريته من قرية يسكنها هنود «المايا». الى جانبي في مقعد الطائرة كان يجلس شاب يرتدي بدلة ملفتة في اناقتها ويدخن السيجار، وكان مسموحا تدخينه على الطائرات في تلك الفترة، تعرفنا الى بعضنا فقال انه ابن عائلة ثرية في جواتيمالا وسوف يتابع دراسة القانون في امريكا، بينما رويت له ما قاله ثوار «الفاربوند ومارتي» عن نظام الحكم العسكري في جواتيمالا، وتوقعاتهم بانتصار الثورة التي يقودها الهنود ضد الجنرالات الحاكمين في جواتيمالا، ولم اخف تعاطفي مع الثوار، بينما كان الشاب الانيق يصغي باهتمام. حطت بنا الطائرة في مطار العاصمة، حملت حقيبتي و... سيفي الماتشو وهبطت سلم الطائرة لاجد الشاب الانيق في استقبالي ومعه اثنان من رجال الامن بالزي العسكري، قال الشاب: هؤلاء اصدقائي، هل تمانع في مرافقتنا، وسرت مع الرفقة غير الطيبة الى غرفة في مبنى المطار، طلبوا جواز سفري اللبناني، وقالوا: اعتقدنا انك فلسطيني، واثناء التحقيق سألوني عن انطباعاتي حول الانتخابات في السيلفادور وحول الثوار، وهنا حشرت اسماء مسئولين امريكيين من وزارة الخارجية ومن الكونجرس الامريكي وبينهم السيناتور اليميني جيسي هيلمز، وقلت لهم انني اجريت حوارا معه ايضا، ولم تقتصر مقابلاتي على الثوار فقط، وابلغتهم ان مكتبي في واشنطن ينتظر رسالة يومية مني، وقد تأخرت عن الموعد، وسألتهم ما اذا كانوا قادرين على تأمين مقابلة لي مع احد قادة «كتائب الموت» التي تفتك بالمزارعين بالجملة، وهنا تحول الاستجواب الى استجواب مضاد، وتم الافراج عني بعد ساعتين. وعندما نزلت في الفندق طلبت تخصيص سيارة تاكسي لاتجول في المدينة، وكان اول سؤال طرحته على السائق: هل انت من رجال الأمن.. المدني؟ بقلم: شوقي رافع
دمشق ـ 1960: كان قد مضى على اعلان الانفصال عن مصر وخروج سوريا من الجمهورية العربية المتحدة عدة اسابيع لم تتوقف خلالها التظاهرات في المدن السورية، منددة بالشركة الخماسية التي قامت بتمويل الانفصاليين، هاتفة بسقوط الضباط الستة الذين قادوا الانقلاب ومطالبة بعودة الوحدة بين سوريا ومصر. كنت حينئذ طالبا في المرحلة الثانوية، وكانت الاستعدادات قد تمت لانطلاق تظاهرة كبرى من امام مبنى البرلمان السوري في منطقة الصالحية. وبدأ المتظاهرون يتوافدون من كل المناطق والمدن والقرى، وعندما بلغت الساعة الثانية عشرة ظهراً كانت الحشود تقدر بعدة آلاف، بينما كانت شاحنات الجيش والشرطة تقذف بالمزيد من الجنود وقوات الأمن حول مبنى البرلمان وفي الطريق إليه، لتقطع الطريق على أي تحرك باتجاهه. في الصف الى جانبي كان تيسير قبعة، احد قيادات الجبهة الشعبية اليوم، محمولا على الاكتاف يهتف: بالروح بالدم نفديك يا جمال، وكان المتظاهرون مع كل هتاف يزدادون سخونة وحماسة، ثم قررت قيادة التظاهرة أن تتحرك باتجاه مبنى البرلمان. كانت المواجهة مع قوات الأمن محتومة، وكانت الأيدي متشابكة تشد على بعضها وكل منا يحاول ان يستمد القوة من الآخر، وعندما اقتربت التظاهرة من حواجز الجيش وقوى الامن قرب مبنى البرلمان ولم يعد يفصلها عنها سوى عدة امتار، كانت هتافات الجموع تشق عنان السماء وصور جمال عبدالناصر تتحول الى غابة يتردد هديرها في كل صوب، وحانت ساعة المواجهة. اطلقت قوات الأمن سيلا من الرصاص في الهواء قبل ان تبدأ اندفاعها باتجاه المتظاهرين، ووقع هرج ومرج كبيرين، واختلط الحابل بالنابل، وفجأة كان «الشباب» الذين يحملون تيسير قبعة على اكتافهم يندفعون باتجاه شاحنة عسكرية مدججة بالجنود و... يقذفون تيسير قبعة الى داخلها ليلتقطه الجنود وينهالوا عليه ضربا، للحظة صعقت ولم اصدق ما شاهدت، ولكن مع عودة «الشباب» برفقة بعض الجنود لتعقب المتظاهرين اكتشفت ان الشباب كانوا من جهاز المخابرات بملابس مدنية، اندسوا بين المتظاهرين ونجحوا في القبض على اكثر من قيادي.. وركضت لا ألوي على شيء. قبرص واغتيال السباعي قبرص ـ 1978: وصلت الى الجزيرة قادما من لندن لتغطية محاكمة قتلة الكاتب ووزير الاعلام المصري الراحل يوسف السباعي، كنت اعمل مديراً لتحرير جريدة «المنار» وصاحبها الزميل رياض نجيب الريس. استقطبت المحاكمة اهتمام وسائل الاعلام العربية والدولية، وكان مئات من الاعلاميين يحتشدون امام بوابة المحكمة في نيقوسيا ويتناثرون في ممراتها الداخلية، وكنت منذ وقت مبكر قد اكتشفت موقعا استراتيجيا يقع قرب القاعة التي ستشهد المحاكمة، وكان لابد للمتهمين الشابين ان يمرا من امامي قبل دخول القاعة، ولعل الفرصة تسنح لتبادل عدة عبارات تصلح كـ«مانشيت». وصحّ ما توقعته وعندما وصل الشابان قربي يحيط بهما ستة من رجال الشرطة قلت: مرحبا يا شباب. هل صحيح ان هناك قائمة باغتيالات اخرى للمتفاوضين مع اسرائيل؟ ابتسم احدهما وكأنه استأنس بسماع من يتكلم العربية في تلك الغابة من الاجانب، وهز رأسه ايجابا عدة مرات من دون ان يتوقف، وشعرت للحظات، تحت انظار رجال الشرطة بالتواطؤ مع المتهمين الشابين، وعندما دخلا القاعة، ركضت خلفهما لاجلس في اقرب مقعد من قفص الاتهام، وأتبادل معهما نظرات متعاطفة. بدأت المحاكمة وكانت هناك سيدة تقوم بترجمة اقوال المتهمين من العربية الى الانجليزية، احدهما قرر ان يلقي خطبة عصماء في محاربة التطبيع مع اسرائيل العدو التاريخي للعرب، ودعا لاستئصال الخونة من العالم العربي، وقامت السيدة بترجمة كلمة استئصال بكلمة اغتيال بالانجليزية، وهنا قلت محتجا موجها حديثي الى الشاب: عفوا انت قلت استئصال ولكن السيدة ترجمتها الى اغتيال، هل هذا ما تقصده؟ رد الشاب؟ انا لم اقل اغتيال، قلت استئصال، وكانت تلك آخر عبارة سمعتها، اذ ان الرجلين عن يميني ويساري، وقفا وحملاني حملا الى خارج القاعة، ومنها الى غرفة الأمن، حيث خضعت لاستجواب مطول قام به ضابط قبرصي يوناني، وعندما ابلغته انني شاركت في وضع كتاب عن قبرص صدر في بيروت، ويحمل غلافه صورة المطران مكاريوس قال: هذا يكفي، ثم ابتسم وافرج عني، ولكن بعد ان انتهت جلسة المحاكمة. جواتيمالا والشاب الأنيق جواتيمالا ـ 1982: كنت اقوم بجولة في امريكا الوسطى لحساب وكالة «بان آراب برس» التي كنت ارأس تحريرها في واشنطن. بدأت الجولة في السيلفادور التي كانت تخوض اول انتخابات برلمانية، برعاية امريكية، بعد الاعلان عن نهاية الحرب الاهلية التي قادها ثوار «الفاربوند ومارتي» ضد الحكم العسكري. قمت بتغطية الانتخابات التي فاز فيها مرشح الامريكيين الرئيس ديوارته، ومعه قاتل الراهبات الأمريكيات «دوبيسوت» وقابلت قيادات الثوار، وعندما ركبت الطائرة الى جواتيمالا كنت مشبعا بالديمقراطية، وأحمل معي سيفا يسمونه «الماتشو» اشتريته من قرية يسكنها هنود «المايا». الى جانبي في مقعد الطائرة كان يجلس شاب يرتدي بدلة ملفتة في اناقتها ويدخن السيجار، وكان مسموحا تدخينه على الطائرات في تلك الفترة، تعرفنا الى بعضنا فقال انه ابن عائلة ثرية في جواتيمالا وسوف يتابع دراسة القانون في امريكا، بينما رويت له ما قاله ثوار «الفاربوند ومارتي» عن نظام الحكم العسكري في جواتيمالا، وتوقعاتهم بانتصار الثورة التي يقودها الهنود ضد الجنرالات الحاكمين في جواتيمالا، ولم اخف تعاطفي مع الثوار، بينما كان الشاب الانيق يصغي باهتمام. حطت بنا الطائرة في مطار العاصمة، حملت حقيبتي و... سيفي الماتشو وهبطت سلم الطائرة لاجد الشاب الانيق في استقبالي ومعه اثنان من رجال الامن بالزي العسكري، قال الشاب: هؤلاء اصدقائي، هل تمانع في مرافقتنا، وسرت مع الرفقة غير الطيبة الى غرفة في مبنى المطار، طلبوا جواز سفري اللبناني، وقالوا: اعتقدنا انك فلسطيني، واثناء التحقيق سألوني عن انطباعاتي حول الانتخابات في السيلفادور وحول الثوار، وهنا حشرت اسماء مسئولين امريكيين من وزارة الخارجية ومن الكونجرس الامريكي وبينهم السيناتور اليميني جيسي هيلمز، وقلت لهم انني اجريت حوارا معه ايضا، ولم تقتصر مقابلاتي على الثوار فقط، وابلغتهم ان مكتبي في واشنطن ينتظر رسالة يومية مني، وقد تأخرت عن الموعد، وسألتهم ما اذا كانوا قادرين على تأمين مقابلة لي مع احد قادة «كتائب الموت» التي تفتك بالمزارعين بالجملة، وهنا تحول الاستجواب الى استجواب مضاد، وتم الافراج عني بعد ساعتين. وعندما نزلت في الفندق طلبت تخصيص سيارة تاكسي لاتجول في المدينة، وكان اول سؤال طرحته على السائق: هل انت من رجال الأمن.. المدني؟ بقلم: شوقي رافع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق