الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ: 05 أكتوبر 2001
كان وجه المجرم عبريا فصار عربيا كيف؟ نقرأ معا من صحيفة «بول
موت جازين» البريطانية في شهر اكتوبر 1888، هذا الوصف للقاتل «جاك السفاح»:
لا أحد يعرف اسمه، ولكنهم يسمونه «المريول الجلدي» وهو يعمل في صنع
الاحذية النسائية (الشبشب). ان له وجها حقودا بعيون ضيقة ولامعة، وهو يخرج
الى الشوارع ليبتز النساء بعد منتصف الليل، وهناك اجماع بين الشهود العيان
على انه يهودي او من اصول يهودية، وملامح وجهه عبرية. ونقرأ معا بعد ما
يزيد على مئة عام في الولايات المتحدة الأمريكية هذا الوصف الذي اطلقته
وسائل الاعلام فور وقوع الانفجار المدمر في اوكلاهوما سيتي، وقد اودى
بعشرات الضحايا وبينهم اطفال: «ووفقا لروايات الشهود فإن المشتبه به يحمل
ملامح شرق أوسطية». اي انه عربي وليس عبريا ولا يهوديا.
ثم نتابع اليوم مايجري في امريكا واوروبا من مطاردة للعرب وللمسلمين لنكتشف ان الوجه العبري صار عربيا وبامتياز. جاك السفاح او الخناق هو عنوان الفصل السابع من كتاب عن لندن في العصر الفيكتوري من تأليف الكاتبة «جوديت وولكفيتز» وصدر في واشنطن. تقول الكاتبة ان جرائم جاك السفاح اطلقت في بريطانيا حملة من معاداة السامية، كان اليهود ضحيتها. فالقاتل الذي كان يختار ضحاياه من بين المومسات، يخنقهن ثم يقوم بتقطيع اجزاء من اجسادهن، بقي مجهولا رغم ارتكابه اكثر من سبع جرائم قتل ارعبت بريطانيا والعاصمة لندن بالذات، بسبب التشويهالذي كان يقوم به القاتل بحرفية شديدة لا يقدر عليها الا الاطباء والجزارون وصناع الاحذية (!). ورغم التحقيقات التي تولاها سكوتلانديارد، اهم جهاز للشرطة في بريطانيا في ذلك الوقت وحتى اليوم فإن هوية جاك السفاح بقيت مجهولة. هذا على الصعيد الرسمي اما على الصعيد الشعبي فإن وسائل الاعلام، والصحف الشعبية بالذات، ومن دون استئناف، وجهت اصابع الاتهام الى «المريول الجلدي» نسبة الى صديرية جلدية او مريول كان يرتديه فوق صدره اثناء مزاولة عمله كإسكافي، وقد لاقت هذه النظرية هوى في قلوب ابناء «الايست اند» الفقراء، حيث وقعت الجرائم، لان اليهود الزاحفين من شرق اوروبا كانوا ينافسونهم في الاعمال الهامشية المتوفرة في مناطقهم، ويزاحمونهم على ما تبقى من منازل متواضعة من دونها لا يجدون مكانا يأوون اليه ويتحولون الى مشردين. يعقوب وليس جاك السفاح وخرجت صحيفة «ستار» الشعبية في صبيحة احد الايام لتعلن لقرائها انها اكتشفت اسم اليهودي صاحب الصديرية الجلدية وهو جون بيزر، وقد منحته لقب «يعقوب السفاح» بدلا من جاك السفاح، ووفقا للمؤلفة فإن هذا الاكتشاف ادى الى موجة واسعة من الكتابات حول الطقوس اليهودية الدموية وفي الوقت نفسه الى حملة تحريض استهدفت اليهود جميعا ولم تقتصر على المناطق الشعبية، وقامت في تلك الفترة ثلاث تظاهرات واحداث شغب لاقتلاع اليهود من منازلهم ودكاكينهم، وقامت عصابات من الشبان بمطاردتهم في الشوارع وسرقتهم والاعتداء عليهم، كمااستعادت الصحف في الوقت نفسه حادثة اليهودي البولندي «لينسكي» الذي تم تنفيذ حكم الاعدام به في العام الاسبق بعد ان قام بقتل صاحبة المنزل الذي يسكنه، وباتت هناك قناعة راسخة لدى الشرطة كما الناس بأن السفاح لا يمكن ان يكون انجليزيا وهو يحمل «ملامح عبرية غامضة». اسطورة الدم صحف الاغنياء والطبقة الوسطى في «وست اند» ساهمت بدورها في الحملة، وكتبت صحيفة «التايمز» من مراسلها في فيينا تقريرا اشار فيه المراسل الى ان السفاح ربما كان من اتباع الطائفة التلمودية التي تدعو اليهودي من اتباعها اذا وقع في غرام فتاة مسيحية ان يقتلها ويتطهر بدمها فيغتسل به تكفيرا عن خطيئته. ومع ان الحاخامات اليهود في تلك الفترة لم يقولوا ان احدا من رعاياهم لا يمارس مثل هذه الطقوس فإن «اسطورة الدم» كما اطلقت عليها الصحف لقيت قبولا شعبيا واسعا. وفي 30 سبتمبر من ذلك العام وقعت جريمة مزدوجة ذهب ضحيتها مومستان، وقد عثر على جثة احداهما في حي يسكنه اليهود، قرب حائط كتبت عليه عبارة «ان اليهود ليسوا ذلك النوع من الرجال الذين يوجه اليهم اللوم بسبب شيء لم يفعلوه»، وقد حرص ضابط سكوتلانديارد الذي وصل لمعاينة الجثة ان يأمر بمسح العبارة عن الحائط خوفا من انفجار الغضب الجماهيري وعجز الشرطة عن السيطرة عليه، وقد ثارت عاصفة اعلامية ضد الضابط لانه قام بتدبر «دليل مهم» ربما يرشد الى القاتل،ولكن الضابط في الوقت نفسه تلقى الشكر الجزيل من كبير حاخامات لندن. ما حدث في دوربان اذن تلك كانت صورة اليهودي في الغرب في العام 1888 قاتل سفاح يحمل معه اسطورة الدم، وبعد اقل من نصف قرن باتت الصورة اكثر رسوخا واوسع في التفاصيل ولم يكن مستغربا ان يصفهم الزعيم النازي هتلر بأنهم «مصاصو دماء» وان يلاحقهم مع آخرين في انحاء أوروبا، ولكن الصورة تغيرت اليوم والوجه العبري صار عربيا، ولن تدخل هنا في الاسباب، ولكن ماحدث في مدينة دوربان في جنوب افريقيا اثناء المؤتمر المناهض للعنصرية يستحق اكثر من وقفة، اذ ان اكثر من 6 آلاف منظمة اهلية ومن حركات المجتمع المدني في انحاء العالم كله اعادت وصف الدولة العبرية بأنها «نظام يعيش على الدماء» ويقوم بحرب تطهير عرقي وعملية ابادة ضد الفلسطينيين صحيح ان البيان الختامي للمؤتمر، وعلى مستوى 150 دولة شاركت فيه لم يسجل هذه الادانات، ولكن في عالمنا اليوم لم تعد الحكومات وحدها من يصنع القرار، وباتت منظمات المجتمع المدني شريكا تزداد مساحة نفوذه يوما بعد يوم، وهو ما يستحق بالتأكيد الوقوف عنده والبناء عليه. الحرب على الارهاب القتل على الهوية او الاعتقال على الهوية هي من سمات الحروب الاهلية، ولكنها في عالم اليوم، وفي ظلال الحرب العالمية ضد الارهاب، باتت تحمل سمات حروب الحضارات، وهي حروب تنتعش مع الحمى القومية او الدينية التي تجتاح اربع زوايا الارض، قد يكون حوار الحضارات هو البديل، ولكن بانتظار زوال هذه الحمى، فان المثل الامريكي يقول: ان القوة هي الحق: وليس العكس، والانتفاضة في فلسطين هي احد مظاهر هذه القوة، على امل استمرارها لانها اليوم تكاد تكون ضد الدفاع الأخير عن حضارة تقتل على الهوية وتطارد على الهوية وتعتقل على الهوية. بقلم: شوقي رافع
ثم نتابع اليوم مايجري في امريكا واوروبا من مطاردة للعرب وللمسلمين لنكتشف ان الوجه العبري صار عربيا وبامتياز. جاك السفاح او الخناق هو عنوان الفصل السابع من كتاب عن لندن في العصر الفيكتوري من تأليف الكاتبة «جوديت وولكفيتز» وصدر في واشنطن. تقول الكاتبة ان جرائم جاك السفاح اطلقت في بريطانيا حملة من معاداة السامية، كان اليهود ضحيتها. فالقاتل الذي كان يختار ضحاياه من بين المومسات، يخنقهن ثم يقوم بتقطيع اجزاء من اجسادهن، بقي مجهولا رغم ارتكابه اكثر من سبع جرائم قتل ارعبت بريطانيا والعاصمة لندن بالذات، بسبب التشويهالذي كان يقوم به القاتل بحرفية شديدة لا يقدر عليها الا الاطباء والجزارون وصناع الاحذية (!). ورغم التحقيقات التي تولاها سكوتلانديارد، اهم جهاز للشرطة في بريطانيا في ذلك الوقت وحتى اليوم فإن هوية جاك السفاح بقيت مجهولة. هذا على الصعيد الرسمي اما على الصعيد الشعبي فإن وسائل الاعلام، والصحف الشعبية بالذات، ومن دون استئناف، وجهت اصابع الاتهام الى «المريول الجلدي» نسبة الى صديرية جلدية او مريول كان يرتديه فوق صدره اثناء مزاولة عمله كإسكافي، وقد لاقت هذه النظرية هوى في قلوب ابناء «الايست اند» الفقراء، حيث وقعت الجرائم، لان اليهود الزاحفين من شرق اوروبا كانوا ينافسونهم في الاعمال الهامشية المتوفرة في مناطقهم، ويزاحمونهم على ما تبقى من منازل متواضعة من دونها لا يجدون مكانا يأوون اليه ويتحولون الى مشردين. يعقوب وليس جاك السفاح وخرجت صحيفة «ستار» الشعبية في صبيحة احد الايام لتعلن لقرائها انها اكتشفت اسم اليهودي صاحب الصديرية الجلدية وهو جون بيزر، وقد منحته لقب «يعقوب السفاح» بدلا من جاك السفاح، ووفقا للمؤلفة فإن هذا الاكتشاف ادى الى موجة واسعة من الكتابات حول الطقوس اليهودية الدموية وفي الوقت نفسه الى حملة تحريض استهدفت اليهود جميعا ولم تقتصر على المناطق الشعبية، وقامت في تلك الفترة ثلاث تظاهرات واحداث شغب لاقتلاع اليهود من منازلهم ودكاكينهم، وقامت عصابات من الشبان بمطاردتهم في الشوارع وسرقتهم والاعتداء عليهم، كمااستعادت الصحف في الوقت نفسه حادثة اليهودي البولندي «لينسكي» الذي تم تنفيذ حكم الاعدام به في العام الاسبق بعد ان قام بقتل صاحبة المنزل الذي يسكنه، وباتت هناك قناعة راسخة لدى الشرطة كما الناس بأن السفاح لا يمكن ان يكون انجليزيا وهو يحمل «ملامح عبرية غامضة». اسطورة الدم صحف الاغنياء والطبقة الوسطى في «وست اند» ساهمت بدورها في الحملة، وكتبت صحيفة «التايمز» من مراسلها في فيينا تقريرا اشار فيه المراسل الى ان السفاح ربما كان من اتباع الطائفة التلمودية التي تدعو اليهودي من اتباعها اذا وقع في غرام فتاة مسيحية ان يقتلها ويتطهر بدمها فيغتسل به تكفيرا عن خطيئته. ومع ان الحاخامات اليهود في تلك الفترة لم يقولوا ان احدا من رعاياهم لا يمارس مثل هذه الطقوس فإن «اسطورة الدم» كما اطلقت عليها الصحف لقيت قبولا شعبيا واسعا. وفي 30 سبتمبر من ذلك العام وقعت جريمة مزدوجة ذهب ضحيتها مومستان، وقد عثر على جثة احداهما في حي يسكنه اليهود، قرب حائط كتبت عليه عبارة «ان اليهود ليسوا ذلك النوع من الرجال الذين يوجه اليهم اللوم بسبب شيء لم يفعلوه»، وقد حرص ضابط سكوتلانديارد الذي وصل لمعاينة الجثة ان يأمر بمسح العبارة عن الحائط خوفا من انفجار الغضب الجماهيري وعجز الشرطة عن السيطرة عليه، وقد ثارت عاصفة اعلامية ضد الضابط لانه قام بتدبر «دليل مهم» ربما يرشد الى القاتل،ولكن الضابط في الوقت نفسه تلقى الشكر الجزيل من كبير حاخامات لندن. ما حدث في دوربان اذن تلك كانت صورة اليهودي في الغرب في العام 1888 قاتل سفاح يحمل معه اسطورة الدم، وبعد اقل من نصف قرن باتت الصورة اكثر رسوخا واوسع في التفاصيل ولم يكن مستغربا ان يصفهم الزعيم النازي هتلر بأنهم «مصاصو دماء» وان يلاحقهم مع آخرين في انحاء أوروبا، ولكن الصورة تغيرت اليوم والوجه العبري صار عربيا، ولن تدخل هنا في الاسباب، ولكن ماحدث في مدينة دوربان في جنوب افريقيا اثناء المؤتمر المناهض للعنصرية يستحق اكثر من وقفة، اذ ان اكثر من 6 آلاف منظمة اهلية ومن حركات المجتمع المدني في انحاء العالم كله اعادت وصف الدولة العبرية بأنها «نظام يعيش على الدماء» ويقوم بحرب تطهير عرقي وعملية ابادة ضد الفلسطينيين صحيح ان البيان الختامي للمؤتمر، وعلى مستوى 150 دولة شاركت فيه لم يسجل هذه الادانات، ولكن في عالمنا اليوم لم تعد الحكومات وحدها من يصنع القرار، وباتت منظمات المجتمع المدني شريكا تزداد مساحة نفوذه يوما بعد يوم، وهو ما يستحق بالتأكيد الوقوف عنده والبناء عليه. الحرب على الارهاب القتل على الهوية او الاعتقال على الهوية هي من سمات الحروب الاهلية، ولكنها في عالم اليوم، وفي ظلال الحرب العالمية ضد الارهاب، باتت تحمل سمات حروب الحضارات، وهي حروب تنتعش مع الحمى القومية او الدينية التي تجتاح اربع زوايا الارض، قد يكون حوار الحضارات هو البديل، ولكن بانتظار زوال هذه الحمى، فان المثل الامريكي يقول: ان القوة هي الحق: وليس العكس، والانتفاضة في فلسطين هي احد مظاهر هذه القوة، على امل استمرارها لانها اليوم تكاد تكون ضد الدفاع الأخير عن حضارة تقتل على الهوية وتطارد على الهوية وتعتقل على الهوية. بقلم: شوقي رافع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق