الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ: 25 يناير 2002
«المدارس الدينية» هل تصلح عنوانا لجبهة ساخنة في الحرب
العالمية ضد الارهاب؟ السؤال يستدعيه قراران: الاول صدر في باكستان والثاني
في اليمن، وهما متشابهان، يقول القراران: « ان الحكومة قامت بالحاق
المدارس الدينية بوزارة التربية». والمدارس الدينية المقصودة ليست تبشيرية
غربية في بلد مسلم، بل هي مدارس اسلامية حتى النخاع كما انها ليست مدارس
خاصة يملكها افراد وقررت الحكومة تأميمها، كما حدث في دول اخرى عربية بل هي
غالبا مدارس تملكها جمعيات او هيئات اجتماعية ودينية اسلامية. اذن ماهي
اهمية هذا القرار الذي افردت له اذاعة «صوت امريكا» قبل ايام تعليقا كاملا
في بثها باللغتين العربية والانجليزية وخصت به باكستان؟ اعلان حرب نبدأ من
اليمن حيث القرار اقرب الى اعلان حرب بين الحليفين التقليديين: حزب المؤتمر
الحاكم وشريكه في السلطة حزب الاصلاح.
«انها معسكرات» هذا ما قاله الوزير السابق، عبدالملك منصور في وصف هذه المدارس، عندما التقيته في موسم الانتخابات النيابية قبل سنوات، وكان حديثه علنيا، قال ان هناك مئات من هذه المدارس، تنتشر في كل انحاء اليمن، وهي تعتمد على ميزانية مستقلة من وزارة التربية ومن الهبات والتبرعات، ويسيطر عليها حزب الاصلاح، ومنها تتخرج كوادر الحزب وتنتشر في المناطق، وتبقى خارج سلطة الدولة الممثلة بوزارة التربية، وقد اكتشفنا انها تقيم معسكرات للتدريب على السلاح، اي انها دولة داخل دولة، وكان الوزير السابق وعضو قيادة حزب المؤتمر لا يخفي شعوره بالمرارة عندما يقارن بين ميزانية وزارة التربية وميزانية المدارس الدينية، ويؤكد انهم «اغنى من الوزارة .. فكيف لا ينتشرون؟». خط أحمر الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر قائد حزب الاصلاح ورئيس مجلس النواب اليمني قال لي ردا على الاتهامات: «لا اصدق ان هناك من يقف ضد انتشار التعليم نحن نساعد الحكومة ونبني المدارس ونصرف على الطلاب، افلا نستحق الشكر على هذا؟». وبقيت «المدارس الدينية» خطا احمر يتجنب حزب المؤتمر الاقتراب منه كي لا يقوض تحالفه مع حزب الاصلاح .. الى ان جاء القرار الاخير مترافقا مع حملة عسكرية ضد القبائل المتمردة على السلطة. وما جرى في باكستان كان اكثر وضوحا، فالطالبان الذين استولوا على السلطة في افغانستان هم الطلاب الذين تخرجوا من المدارس الدينية في باكستان، ومعهم مقاتلون انتشروا في كشمير والشيشان وصولا الى ماليزيا والصين والصومال ونيجيريا كما تقول اجهزة الاستخبارات الامريكية. هل انحرفت هذه المدارس اذن عن غاياتها، ام انها ماقامت الا لانها صاحبة رسالة وهي تحاول ان توفي هذه الرسالة حقها، كما يقول اتباعها؟ في بريطانيا تتحدى الحكومة لعل السؤال هنا ينقل الكرة الى ملعب الغرب، والى الولايات المتحدة بالذات، فالمدارس الدينية، ومنها الاسلامية واليهودية والكاثوليكية تنتشر في معظم الولايات الامريكية، وهي تلقى اقبالا واسعا، وفي كلية الملك فهد مثلا فإن قوائم الانتظار تطول لتصل الى خمس سنوات، كما ان المدارس اليهودية في نيويورك لم تعد تقتصر على اليهود وحدهم، بل ان طلابا من ديانات اخرى ينتسبون اليها وببدلات رمزية، أما في بريطانيا فإن المدارس الدينية تملك من القوة والنفوذ ما يكفي لأن تتحدى القوانين الحكومية، ومن بينها قانون أوروبي يقضي بمنع جلد الطلاب على مؤخراتهم في المدارس، وهو ما ترفضه المدارس الدينية، وتصر على مقاضاة الحكومة باعتبار ان جلد المؤخرة هو أحد الوسائل الضرورية لضبط النظام في المدارس. الشرعية المفقودة إذن لا مشكلة للغرب مع المدارس الدينية حتى الاسلامية منها، فلماذا المشكلة مع هذه المدارس خارج الغرب وفي بعض دول عالمنا العربي والاسلامي؟ السؤال يفتح الابواب على اتساعها للحوار حول الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني وسلطة الدولة في العالم النامي، ففي اليمن مثلا كما في باكستان، فإن القبائل تزاحم الدولة على السلطة والنفوذ، وهي غالبا تتصرف ككيانات مستقلة، فتعلن الحرب على الدولة أو على القبائل المجاورة، وفي معظم الحالات تلجأ الدولة الى أحد خيارين: إما القمع العسكري، أي ممارسة سياسة العصا، أو اللجوء الى اجتذاب ولاء القبيلة بالعطايا لزعمائها أو بالخدمات لأبنائها، أي سياسة الجزرة. ولكن الخيارين معا ينتقصان من شرعية السلطة مما يشجع وحدات اخرى غير القبيلة لتلعب الدور نفسه وتعلن استقلالها عن السلطة الشرعية. والطائفة هي احدى هذه الوحدات، ومثلها الاحزاب التي تتحول الى ممثلة للقبيلة أو للطائفة أو للجهة، وتقوم غالباً بتعزيز كياناتها على حساب «الآخر». واحيانا ضده باعتبار انها وحدها تملك مفاتيح الحق والحقيقة، والآخر على ضلال، وهو ما يوفر أرضا خصبة لكل أنواع الصراع، ونموذج أفغانستان واضح، فالحرب لم تتوقف مع خروج السوفييت، بل استمرت طاحنة بين الفرق الدينية والوحدات القبلية ثم مع طالبان فاضت الى الخارج لتبدأ حربا عالمية ضد الصين وروسيا وأمريكا مرورا بمصر والسودان ووصولا الى كردستان. بالديمقراطية وحدها ولكن الحاق المدارس الدينية بالحكومات باعتباره الحل المنشود هو تبسيط للأمور لأن هذه الحكومات بدورها وفي غياب ديمقراطية حقيقية تفتقر الى شرعية تمثل فئات الشعب كلها، مع انها تتحدث باسمها، وهي بدورها تحاول الغاء الآخر، فتسحق كل أنواع المعارضة، معتمدة على مؤسسات الدولة. ومن ضمنها المدارس والمؤسسة العسكرية، ويصبح «حزب الرئيس» هو وحده من يملك الحق والحقيقة والسلطة والسلطان وعلى حساب الآخرين، وهو ما يدفع باتجاه دوامات أخرى من الصراع، خاصة في بلدان مازالت تعتبر ان الانقلابات العسكرية وتغيير الرؤساء عبرها ولا تقلل من شرعية السلطة. ربما من حق الولايات المتحدة ان ترحب بالحاق المدارس الدينية بالحكومات، ولكن اذا كان هذا الالحاق يعني الغاء كل أنواع المعارضة وتكبيل منظمات المجتمع المدني بالقيود الرسمية وفرض الرقابة على الافكار فإن مدارس اخرى سوف تتناسل وتظهر وربما تكون أكثر نظاما وتعصبا لأن الحرية وحدها هي أقصر طريق الى ثقافة التسامح والاعتدال. بقلم: شوقي رافع
«انها معسكرات» هذا ما قاله الوزير السابق، عبدالملك منصور في وصف هذه المدارس، عندما التقيته في موسم الانتخابات النيابية قبل سنوات، وكان حديثه علنيا، قال ان هناك مئات من هذه المدارس، تنتشر في كل انحاء اليمن، وهي تعتمد على ميزانية مستقلة من وزارة التربية ومن الهبات والتبرعات، ويسيطر عليها حزب الاصلاح، ومنها تتخرج كوادر الحزب وتنتشر في المناطق، وتبقى خارج سلطة الدولة الممثلة بوزارة التربية، وقد اكتشفنا انها تقيم معسكرات للتدريب على السلاح، اي انها دولة داخل دولة، وكان الوزير السابق وعضو قيادة حزب المؤتمر لا يخفي شعوره بالمرارة عندما يقارن بين ميزانية وزارة التربية وميزانية المدارس الدينية، ويؤكد انهم «اغنى من الوزارة .. فكيف لا ينتشرون؟». خط أحمر الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر قائد حزب الاصلاح ورئيس مجلس النواب اليمني قال لي ردا على الاتهامات: «لا اصدق ان هناك من يقف ضد انتشار التعليم نحن نساعد الحكومة ونبني المدارس ونصرف على الطلاب، افلا نستحق الشكر على هذا؟». وبقيت «المدارس الدينية» خطا احمر يتجنب حزب المؤتمر الاقتراب منه كي لا يقوض تحالفه مع حزب الاصلاح .. الى ان جاء القرار الاخير مترافقا مع حملة عسكرية ضد القبائل المتمردة على السلطة. وما جرى في باكستان كان اكثر وضوحا، فالطالبان الذين استولوا على السلطة في افغانستان هم الطلاب الذين تخرجوا من المدارس الدينية في باكستان، ومعهم مقاتلون انتشروا في كشمير والشيشان وصولا الى ماليزيا والصين والصومال ونيجيريا كما تقول اجهزة الاستخبارات الامريكية. هل انحرفت هذه المدارس اذن عن غاياتها، ام انها ماقامت الا لانها صاحبة رسالة وهي تحاول ان توفي هذه الرسالة حقها، كما يقول اتباعها؟ في بريطانيا تتحدى الحكومة لعل السؤال هنا ينقل الكرة الى ملعب الغرب، والى الولايات المتحدة بالذات، فالمدارس الدينية، ومنها الاسلامية واليهودية والكاثوليكية تنتشر في معظم الولايات الامريكية، وهي تلقى اقبالا واسعا، وفي كلية الملك فهد مثلا فإن قوائم الانتظار تطول لتصل الى خمس سنوات، كما ان المدارس اليهودية في نيويورك لم تعد تقتصر على اليهود وحدهم، بل ان طلابا من ديانات اخرى ينتسبون اليها وببدلات رمزية، أما في بريطانيا فإن المدارس الدينية تملك من القوة والنفوذ ما يكفي لأن تتحدى القوانين الحكومية، ومن بينها قانون أوروبي يقضي بمنع جلد الطلاب على مؤخراتهم في المدارس، وهو ما ترفضه المدارس الدينية، وتصر على مقاضاة الحكومة باعتبار ان جلد المؤخرة هو أحد الوسائل الضرورية لضبط النظام في المدارس. الشرعية المفقودة إذن لا مشكلة للغرب مع المدارس الدينية حتى الاسلامية منها، فلماذا المشكلة مع هذه المدارس خارج الغرب وفي بعض دول عالمنا العربي والاسلامي؟ السؤال يفتح الابواب على اتساعها للحوار حول الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني وسلطة الدولة في العالم النامي، ففي اليمن مثلا كما في باكستان، فإن القبائل تزاحم الدولة على السلطة والنفوذ، وهي غالبا تتصرف ككيانات مستقلة، فتعلن الحرب على الدولة أو على القبائل المجاورة، وفي معظم الحالات تلجأ الدولة الى أحد خيارين: إما القمع العسكري، أي ممارسة سياسة العصا، أو اللجوء الى اجتذاب ولاء القبيلة بالعطايا لزعمائها أو بالخدمات لأبنائها، أي سياسة الجزرة. ولكن الخيارين معا ينتقصان من شرعية السلطة مما يشجع وحدات اخرى غير القبيلة لتلعب الدور نفسه وتعلن استقلالها عن السلطة الشرعية. والطائفة هي احدى هذه الوحدات، ومثلها الاحزاب التي تتحول الى ممثلة للقبيلة أو للطائفة أو للجهة، وتقوم غالباً بتعزيز كياناتها على حساب «الآخر». واحيانا ضده باعتبار انها وحدها تملك مفاتيح الحق والحقيقة، والآخر على ضلال، وهو ما يوفر أرضا خصبة لكل أنواع الصراع، ونموذج أفغانستان واضح، فالحرب لم تتوقف مع خروج السوفييت، بل استمرت طاحنة بين الفرق الدينية والوحدات القبلية ثم مع طالبان فاضت الى الخارج لتبدأ حربا عالمية ضد الصين وروسيا وأمريكا مرورا بمصر والسودان ووصولا الى كردستان. بالديمقراطية وحدها ولكن الحاق المدارس الدينية بالحكومات باعتباره الحل المنشود هو تبسيط للأمور لأن هذه الحكومات بدورها وفي غياب ديمقراطية حقيقية تفتقر الى شرعية تمثل فئات الشعب كلها، مع انها تتحدث باسمها، وهي بدورها تحاول الغاء الآخر، فتسحق كل أنواع المعارضة، معتمدة على مؤسسات الدولة. ومن ضمنها المدارس والمؤسسة العسكرية، ويصبح «حزب الرئيس» هو وحده من يملك الحق والحقيقة والسلطة والسلطان وعلى حساب الآخرين، وهو ما يدفع باتجاه دوامات أخرى من الصراع، خاصة في بلدان مازالت تعتبر ان الانقلابات العسكرية وتغيير الرؤساء عبرها ولا تقلل من شرعية السلطة. ربما من حق الولايات المتحدة ان ترحب بالحاق المدارس الدينية بالحكومات، ولكن اذا كان هذا الالحاق يعني الغاء كل أنواع المعارضة وتكبيل منظمات المجتمع المدني بالقيود الرسمية وفرض الرقابة على الافكار فإن مدارس اخرى سوف تتناسل وتظهر وربما تكون أكثر نظاما وتعصبا لأن الحرية وحدها هي أقصر طريق الى ثقافة التسامح والاعتدال. بقلم: شوقي رافع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق