من الملف السياسي:خط الشام في لبنان كان مثل خط الاستواء، الجغرافيا السياسية مثل الطبيعة وضحاياها يدفعون ثمن، الجغرافيا والتاريخ ايضا.بقلم: شوقي رافع - التاريخ: 04 فبراير 2000
(اطعموهم.. ثم اقيموا الحد عليهم) العبارة اطلقها خليفة
المسلمين الثاني عمر بن الخطاب في (عام الرماد) وفي ذلك العام ساد القحط
والجفاف, وهلك الزرع والضرع وكثر الجوع, وبأمر من الخليفة لم يعد يقام الحد
على السارق فتقطع يده, وصار الجائع يسرق, ويحتفظ باليد السارقة لا تقطع
وان قبض عليه وادين. ولعل الخليفة عمر في دولة الاسلام كان اول من تصالح مع
الجغرافيا, والمناخ احد اركانها, فافسح لها مكانا.
ان القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) تصلح شعاراً لمصالحة الانسان مع البيئة والجغرافيا وعبرهما مع التاريخ. هذا ما يؤكده كتابان صدرا في الغرب مازالا يثيران الكثير من النقاش, الاول مؤلفه الامريكي دافيد لاندس, وعنوانه (ثورة الامم وعوزها: لماذا بعضها غني جدا وبعضها فقير جدا (والمؤلف هو مؤرخ واستاذ في الاقتصاد, وفي رده على السؤال يقول فتش عن الجغرافيا فهي من يصنع التاريخ, ويطرح انطلاقا من الجغرافيا, نظرية متكاملة في التاريخ تقول ان الحكام الطغاة يخرجون من الشرق, اما غرب اوروبا فهو مهد الديمقراطية والتعددية لأسباب. مناخية (!). ويرى لاندس في تفسير هذه النظرية ان الانهار هي مهد الحضارات: النيل والحضارة الفرعونية, ومثله الفرات ودجلة, ومن يتحكم بالنهر يتحكم بالبلاد والعباد, ولأن منسوب المياه ينخفض, او لأنها تفيض, فهي تحتاج الى اقامة سدود عملاقة لا يمكن ان يتم بناؤها الا على ايدي عمال السخرة او العبيد, ومن هنا يصبح وجود الطاغية ضرورة لحياة الناس. ولاحظ ايضا انه ليس مصادفة ان نظام العبودية كان منذ البداية مرتبطا بالمناطق الاستوائية وكذلك تقسيم العمل بين الرجل والمرأة ففي البلاد الحارة كانت المرأة هي من يعمل في الحقول تحت اشعة الشمس وفي المنزل ايضا. بينما كانت مهمة الرجل هي الحرب والصيد, اي بلغة العصر التفرغ لشرب القهوة والشاي ومباريات كرة القدم وقيادة السيارة, اما عن الديمقراطية الاوروبية فهو يقول ان المناخ المعتدل سهل للاوروبيين ان يتركوا مساحات شاسعة من الاراضي تغطيها الغابات والمراعي, فهم لم يكونوا يحتاجون الى زراعتها, وبالتالي فان مواشيهم كانت ترعى في المناطق القريبة, وكانت تنمو باحجام كبيرة, خلافا للمواشي في الاراضي الاقل خصوبة كالحصان العربي مثلا او التتري وهو اصغر حجما.. وهذا الحصان الاوروبي كما يعتقد المؤلف, هو من اوقف الزحف العربي على اوروبا في معركة (تور) بقيادة شارل مارتيل, جد شارلمان, وهو الحصان نفسه, كما يعتقد المؤلف, الذي كان سببا في هزيمة الغرب في معركة حطين بقيادة صلاح الدين. وبينما لم يكن باستطاعة المزارع في وادي النيل او الفرات ان يغادر الوادي او يرحل عنه من دون ان يواجه خطر المجاعة والموت, فان المزارع الاوروبي على النقيض من ذلك, كان اذا غضب من امير المقاطعة او من سيد الارض فانه (يحمل متاعه على ظهر حصانه ويرحل الى ناحية اخرى, اي وفق التعبير السائد اليوم, (كان يصوت بقدميه) ويترك اميره الى امير اخر, وهو ما لم يكن متاحا لابن النيل مثلا. الحتمية البيئية والكتاب الثاني يحمل عنوان (البنادق والجراثيم والفولاذ: قدر المجتمعات البشرية) ومؤلفه هو جاربير دايموند, حامل جائزة بوليتزر والاستاذ في كلية الطب في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة. والكتاب كما يعرضه العالم احمد مستجير, يؤكد تأثير الحتمية البيئية في تاريخ التطور الحضاري للانسان, فالانسان هو ابن بيئته, وجغرافيا المكان الذي يعيش فيه تحدد مسار تطوره, ولذلك تتباين الشعوب في مساراتها الحضارية تبعا للجغرافيا, وهذه الجغرافيا هي مفتاح التاريخ, واحدى محطاته هي: كما يقول المؤلف (في اول صدام تاريخي بين العالمين القديم والجديد 1 نوفمبر 1532 هزم امبراطور هنود (الانكا) وفقد عرشه وحياته لأن جيوشه كانت مسلحة بالحجارة والهراوات, بينما كان خصومه الاسبان وهم قلة يحاربونه بالسيوف والبنادق والخيل, فضلا عن ان الاوبئة كانت هي الاخرى تشارك في التمهيد الهزيمة. وبالطبع يرى المؤلف ان الانسان الابيض اخترع الحديد والفولاذ نتيجة لمواجهة الجغرافيا, كما ان الجراثيم التي حملها وبات يملك مناعة ضدها ساعدته على هزيمة اعدائه من الهنود والشعوب الاخرى التي غزاها. الاعظمية والكاظمية في بغداد هل يمكن ان نطبق وحدة القياس الجغرافي على المجتمعات الصغيرة, من دون ان نتعسف؟ او ان نقوم بما يقوم به الاقتصاديون عندما ينتقلون من اقتصاد الماكرو الكلي الى الميكرو الجزئي, فننتقل من الجغرافيا الطبيعية الى الجغرافيا السياسية؟ هنا محاولة. تقع الاعظمية في مدينة بغداد شرق نهر دجلة, اما الكاظمية فتقع غربي النهر ويربط بين المنطقتين جسر الائمة. وفي مطلع الستينيات لم يكن جميع الناس في الاعظمية قوميين عربا, وكذلك لم يكن جميع الناس في الكاظمية شيوعيين, ولكن لو ان اعظميا مر في الكاظمية فان احد لن يضمن ألا تكون (الاهانة) من نصيبه, والاهانة في ايام حكم الزعيم عبد الكريم قاسم كانت تصل حد.. السحل. ومثل هذا كان يحدث لو مر كاظمي في الاعظمية. بالطبع, في تلك الفترة, وكانت من شهودها العيان, لم يكون هناك حواجز ثابتة ولا طيارة في الشوارع والطرقات, تطلب الهوية وتحاسب عليها, اذ كان ابن الكاظمية يحمل بفخر على باقة سترته, وداخل اطار معدني صغير ومستدير صورة (الشهيد فهد) الامين العام للحزب الشيوعي, وقد قتل في السجن, في اثناء حكم نوري السعيد, وكانت بنت الكاظمية تعلق الصورة نفسها بسلسلة تتدلى حول عنقها. اما ابن الاعظمية فكان يعلق على ياقته, او في رقبته عبارة (الله) او (محمد) من الفضة او الذهب, مما هو مألوف حاليا, او اية آية من القرآن الكريم ومثله كانت تفعل بنت الاعظمية, ولم يكن احد في المنطقتين يهتم بأن يتخفى شعاره, وكان التحدي يتواصل بين الارض والسماء, وكانت القومية هي الحضن الدافئ للتيارات المتدينة كان الضابط القومي عبد السلام عارف هو من وعد الشعب بأن يبني في كل قرية مسجدا. وفيما بعد صار ابن الاعظمية او ابن الكاظمية يخطف على (الانتماء الجغرافي) و .. يسحل. السحل وصناعة التاريخ وفي كافيتريا (الكيت كات) في ساحة التحرير في بغداد حيث كنت اعمل في ذلك الوقت شاهدت الجغرافيا وهي تصنع التاريخ (اكو سحلة) قالها صاحب الكافيتريا, وهو يتابع بنظراته جموعا من الناس تتراكض باتجاه شارع الرشيد. ولم اتردد, استأذنت وخرجت اركض مع الناس, وفوق الحجارة البازلتية السوداء في الشارع الشهير شاهدت رجلا مربوطا من قدميه الى سيارة تجرجره على مهل, كان رأسه يرتفع وينخفض من كل حجرة في الشارع, وكان الجمهور, كلا بدوره, يرفع قدمه ويضرب بها وجه الرجل الذي فقد ملامحه وتحول كتله من الدماء. اختلف الناس حول هوية الرجل: هل هو من الاعظمية ام من الكاظمية, وقيل انه من الموصل او من كركوك, وفي كل الحالات كانت الجغرافيا السياسية قدرا يصنع التاريخ. جنوب لبنان: الجغرافيا والتاريخ وصولا الى جنوب لبنان. نقول ان اللبنانيين سواسية, كلهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات, ويخضعون للقوانين نفسها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا, ونتجاهل الجغرافيا السياسية التي كانت وعلى مدى 15 عاما تقريبا تتعامل مع (طريق الشام) وكأنه خط الاستواء, ما يقع الى الشمال منه هو المنطقة الشرقية وفي جنوبه المنطقة الغربية. الجنوب المحتل, ومعه منطقة جزين قبل تحريرها, كان قدره ان يواجه اسرائيل في ظل الاقطاع السياسي اولا ثم في ظل المكتب الثاني (المخابرات العسكرية) ثانيا, ثم فيظل المقاومة الفلسطينية التي منحته اسما دوليا هو (فتح لاند) ثم في ظل الاحتلال الاسرائيلي المباشر تحت المسمى الاسرائيلي (المنطقة العازلة) او الشريط المحتل, وفق مانسميه. وكان على ابن الجنوب, ومنذ قيام اسرائيل, ان يتعامل مع هذه المتغيرات المتسارعة وان يواجهها, ومن دون ان يغادر ارضه, وكان عليه باستمرار ان يتشبث بحقله فهو مورد رزقه الوحيد وعماد حياته. التعامل مع القصف الاسرائيلي لم يكن حدثا استثنائيا بل صار طريقة حياة, وبطش الاقطاع السياسي, ومن بعده المكتب الثاني كان يدخل دورة الحياة اليومية من قبول الابن في المدرسة الرسمية-, وهو ما يحتاج الى واسطة مرورا بشراء (الريجي) وهي الشركة الرسمية محصوله من التبغ بسعر جيد او وصولا الى الانتخابات, حيث ضرب المرشحين والمؤيدين من خارج اللائحة, واعتقالهم كان عرفا وتقليدا. ثم حضن الجنوبي المقاومة الفلسطينية, وواجه معها اسرائيل, قبل ان تتحول المقاومة بدورها الى (القوة 17) وملحقاتها من الاجهزة الامنية وكان على الجنوبي ان يتعايش مع هذه المقاومة ومع القصف الاسرائيلي وان يصمد. ونشبت الحرب الاهلية, وبات الجنوب جزرا امنية متناثرة, تفصل بينها محيطات, كان هناك الفلسطيني واللبناني, ثم الحزبي والاقطاعي, ثم المسيحي والمسلم, ثم الموالي للسلطة المركزية في العاصمة او ما تبقى منها والمنتفض عليها.. وكان هناك الاسرائيلي دائما. وهذا الجنوبي, متى انسحبت اسرائيل, يستحق بالتأكيد معاملة افضل مما لقيه الشباب الذين سلموا انفسهم للسلطة من قبل في جزين. ان التعاون مع الاحتلال هو جريمة ومثلها السرقة, (احموهم ثم اقيموا الحد عليهم) كي لا نجعل من ابن الجنوب ضحية مرتين: مرة للجغرافيا ومرة للتاريخ (!).
ان القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) تصلح شعاراً لمصالحة الانسان مع البيئة والجغرافيا وعبرهما مع التاريخ. هذا ما يؤكده كتابان صدرا في الغرب مازالا يثيران الكثير من النقاش, الاول مؤلفه الامريكي دافيد لاندس, وعنوانه (ثورة الامم وعوزها: لماذا بعضها غني جدا وبعضها فقير جدا (والمؤلف هو مؤرخ واستاذ في الاقتصاد, وفي رده على السؤال يقول فتش عن الجغرافيا فهي من يصنع التاريخ, ويطرح انطلاقا من الجغرافيا, نظرية متكاملة في التاريخ تقول ان الحكام الطغاة يخرجون من الشرق, اما غرب اوروبا فهو مهد الديمقراطية والتعددية لأسباب. مناخية (!). ويرى لاندس في تفسير هذه النظرية ان الانهار هي مهد الحضارات: النيل والحضارة الفرعونية, ومثله الفرات ودجلة, ومن يتحكم بالنهر يتحكم بالبلاد والعباد, ولأن منسوب المياه ينخفض, او لأنها تفيض, فهي تحتاج الى اقامة سدود عملاقة لا يمكن ان يتم بناؤها الا على ايدي عمال السخرة او العبيد, ومن هنا يصبح وجود الطاغية ضرورة لحياة الناس. ولاحظ ايضا انه ليس مصادفة ان نظام العبودية كان منذ البداية مرتبطا بالمناطق الاستوائية وكذلك تقسيم العمل بين الرجل والمرأة ففي البلاد الحارة كانت المرأة هي من يعمل في الحقول تحت اشعة الشمس وفي المنزل ايضا. بينما كانت مهمة الرجل هي الحرب والصيد, اي بلغة العصر التفرغ لشرب القهوة والشاي ومباريات كرة القدم وقيادة السيارة, اما عن الديمقراطية الاوروبية فهو يقول ان المناخ المعتدل سهل للاوروبيين ان يتركوا مساحات شاسعة من الاراضي تغطيها الغابات والمراعي, فهم لم يكونوا يحتاجون الى زراعتها, وبالتالي فان مواشيهم كانت ترعى في المناطق القريبة, وكانت تنمو باحجام كبيرة, خلافا للمواشي في الاراضي الاقل خصوبة كالحصان العربي مثلا او التتري وهو اصغر حجما.. وهذا الحصان الاوروبي كما يعتقد المؤلف, هو من اوقف الزحف العربي على اوروبا في معركة (تور) بقيادة شارل مارتيل, جد شارلمان, وهو الحصان نفسه, كما يعتقد المؤلف, الذي كان سببا في هزيمة الغرب في معركة حطين بقيادة صلاح الدين. وبينما لم يكن باستطاعة المزارع في وادي النيل او الفرات ان يغادر الوادي او يرحل عنه من دون ان يواجه خطر المجاعة والموت, فان المزارع الاوروبي على النقيض من ذلك, كان اذا غضب من امير المقاطعة او من سيد الارض فانه (يحمل متاعه على ظهر حصانه ويرحل الى ناحية اخرى, اي وفق التعبير السائد اليوم, (كان يصوت بقدميه) ويترك اميره الى امير اخر, وهو ما لم يكن متاحا لابن النيل مثلا. الحتمية البيئية والكتاب الثاني يحمل عنوان (البنادق والجراثيم والفولاذ: قدر المجتمعات البشرية) ومؤلفه هو جاربير دايموند, حامل جائزة بوليتزر والاستاذ في كلية الطب في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة. والكتاب كما يعرضه العالم احمد مستجير, يؤكد تأثير الحتمية البيئية في تاريخ التطور الحضاري للانسان, فالانسان هو ابن بيئته, وجغرافيا المكان الذي يعيش فيه تحدد مسار تطوره, ولذلك تتباين الشعوب في مساراتها الحضارية تبعا للجغرافيا, وهذه الجغرافيا هي مفتاح التاريخ, واحدى محطاته هي: كما يقول المؤلف (في اول صدام تاريخي بين العالمين القديم والجديد 1 نوفمبر 1532 هزم امبراطور هنود (الانكا) وفقد عرشه وحياته لأن جيوشه كانت مسلحة بالحجارة والهراوات, بينما كان خصومه الاسبان وهم قلة يحاربونه بالسيوف والبنادق والخيل, فضلا عن ان الاوبئة كانت هي الاخرى تشارك في التمهيد الهزيمة. وبالطبع يرى المؤلف ان الانسان الابيض اخترع الحديد والفولاذ نتيجة لمواجهة الجغرافيا, كما ان الجراثيم التي حملها وبات يملك مناعة ضدها ساعدته على هزيمة اعدائه من الهنود والشعوب الاخرى التي غزاها. الاعظمية والكاظمية في بغداد هل يمكن ان نطبق وحدة القياس الجغرافي على المجتمعات الصغيرة, من دون ان نتعسف؟ او ان نقوم بما يقوم به الاقتصاديون عندما ينتقلون من اقتصاد الماكرو الكلي الى الميكرو الجزئي, فننتقل من الجغرافيا الطبيعية الى الجغرافيا السياسية؟ هنا محاولة. تقع الاعظمية في مدينة بغداد شرق نهر دجلة, اما الكاظمية فتقع غربي النهر ويربط بين المنطقتين جسر الائمة. وفي مطلع الستينيات لم يكن جميع الناس في الاعظمية قوميين عربا, وكذلك لم يكن جميع الناس في الكاظمية شيوعيين, ولكن لو ان اعظميا مر في الكاظمية فان احد لن يضمن ألا تكون (الاهانة) من نصيبه, والاهانة في ايام حكم الزعيم عبد الكريم قاسم كانت تصل حد.. السحل. ومثل هذا كان يحدث لو مر كاظمي في الاعظمية. بالطبع, في تلك الفترة, وكانت من شهودها العيان, لم يكون هناك حواجز ثابتة ولا طيارة في الشوارع والطرقات, تطلب الهوية وتحاسب عليها, اذ كان ابن الكاظمية يحمل بفخر على باقة سترته, وداخل اطار معدني صغير ومستدير صورة (الشهيد فهد) الامين العام للحزب الشيوعي, وقد قتل في السجن, في اثناء حكم نوري السعيد, وكانت بنت الكاظمية تعلق الصورة نفسها بسلسلة تتدلى حول عنقها. اما ابن الاعظمية فكان يعلق على ياقته, او في رقبته عبارة (الله) او (محمد) من الفضة او الذهب, مما هو مألوف حاليا, او اية آية من القرآن الكريم ومثله كانت تفعل بنت الاعظمية, ولم يكن احد في المنطقتين يهتم بأن يتخفى شعاره, وكان التحدي يتواصل بين الارض والسماء, وكانت القومية هي الحضن الدافئ للتيارات المتدينة كان الضابط القومي عبد السلام عارف هو من وعد الشعب بأن يبني في كل قرية مسجدا. وفيما بعد صار ابن الاعظمية او ابن الكاظمية يخطف على (الانتماء الجغرافي) و .. يسحل. السحل وصناعة التاريخ وفي كافيتريا (الكيت كات) في ساحة التحرير في بغداد حيث كنت اعمل في ذلك الوقت شاهدت الجغرافيا وهي تصنع التاريخ (اكو سحلة) قالها صاحب الكافيتريا, وهو يتابع بنظراته جموعا من الناس تتراكض باتجاه شارع الرشيد. ولم اتردد, استأذنت وخرجت اركض مع الناس, وفوق الحجارة البازلتية السوداء في الشارع الشهير شاهدت رجلا مربوطا من قدميه الى سيارة تجرجره على مهل, كان رأسه يرتفع وينخفض من كل حجرة في الشارع, وكان الجمهور, كلا بدوره, يرفع قدمه ويضرب بها وجه الرجل الذي فقد ملامحه وتحول كتله من الدماء. اختلف الناس حول هوية الرجل: هل هو من الاعظمية ام من الكاظمية, وقيل انه من الموصل او من كركوك, وفي كل الحالات كانت الجغرافيا السياسية قدرا يصنع التاريخ. جنوب لبنان: الجغرافيا والتاريخ وصولا الى جنوب لبنان. نقول ان اللبنانيين سواسية, كلهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات, ويخضعون للقوانين نفسها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا, ونتجاهل الجغرافيا السياسية التي كانت وعلى مدى 15 عاما تقريبا تتعامل مع (طريق الشام) وكأنه خط الاستواء, ما يقع الى الشمال منه هو المنطقة الشرقية وفي جنوبه المنطقة الغربية. الجنوب المحتل, ومعه منطقة جزين قبل تحريرها, كان قدره ان يواجه اسرائيل في ظل الاقطاع السياسي اولا ثم في ظل المكتب الثاني (المخابرات العسكرية) ثانيا, ثم فيظل المقاومة الفلسطينية التي منحته اسما دوليا هو (فتح لاند) ثم في ظل الاحتلال الاسرائيلي المباشر تحت المسمى الاسرائيلي (المنطقة العازلة) او الشريط المحتل, وفق مانسميه. وكان على ابن الجنوب, ومنذ قيام اسرائيل, ان يتعامل مع هذه المتغيرات المتسارعة وان يواجهها, ومن دون ان يغادر ارضه, وكان عليه باستمرار ان يتشبث بحقله فهو مورد رزقه الوحيد وعماد حياته. التعامل مع القصف الاسرائيلي لم يكن حدثا استثنائيا بل صار طريقة حياة, وبطش الاقطاع السياسي, ومن بعده المكتب الثاني كان يدخل دورة الحياة اليومية من قبول الابن في المدرسة الرسمية-, وهو ما يحتاج الى واسطة مرورا بشراء (الريجي) وهي الشركة الرسمية محصوله من التبغ بسعر جيد او وصولا الى الانتخابات, حيث ضرب المرشحين والمؤيدين من خارج اللائحة, واعتقالهم كان عرفا وتقليدا. ثم حضن الجنوبي المقاومة الفلسطينية, وواجه معها اسرائيل, قبل ان تتحول المقاومة بدورها الى (القوة 17) وملحقاتها من الاجهزة الامنية وكان على الجنوبي ان يتعايش مع هذه المقاومة ومع القصف الاسرائيلي وان يصمد. ونشبت الحرب الاهلية, وبات الجنوب جزرا امنية متناثرة, تفصل بينها محيطات, كان هناك الفلسطيني واللبناني, ثم الحزبي والاقطاعي, ثم المسيحي والمسلم, ثم الموالي للسلطة المركزية في العاصمة او ما تبقى منها والمنتفض عليها.. وكان هناك الاسرائيلي دائما. وهذا الجنوبي, متى انسحبت اسرائيل, يستحق بالتأكيد معاملة افضل مما لقيه الشباب الذين سلموا انفسهم للسلطة من قبل في جزين. ان التعاون مع الاحتلال هو جريمة ومثلها السرقة, (احموهم ثم اقيموا الحد عليهم) كي لا نجعل من ابن الجنوب ضحية مرتين: مرة للجغرافيا ومرة للتاريخ (!).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق