الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ: 27 يوليو 2001
«حفاظاً على العادات والتقاليد» عبارة تستخدم بحسن نية غالباً
في معرض الاشارة الى اهمية التراث وضرورة رعايته وعدم التفريط فيه، ولكن
هذه العبارة في مجتمع متعدد الثقافات، تتحول الى شرارة ملتهبة، تنشر ثقافة
الكراهية للآخر وتجمع وقودها من حطب العنصرية. قال ستيف سميث: «ان رسالتنا
واضحة للجميع وهي ان علينا المحافظة على تراث البيض في مواجهة الغزو القادم
من الخارج». وسميث هذا يحتل موقع مدير التنظيم الاقليمي في الحزب الوطني
البريطاني في مدينة «بيرنللي» البريطانية التي شهدت اسوأ اشتباكات عنصرية،
الشهر الماضي بين البريطانيين البيض والبريطانيين من اصول باكستانية
وبنجلاديشية. ويقول تقرير نشرته صحيفة «هيرالد تريبيون الدولية» ان الحزب
الوطني هو المسئول الاول عن نشر ثقافة الكراهية ضد الآسيويين في بريطانيا.
تحت زعم المحافظة على الهوية وعلى تراث البلاد.
حوار مع رئيس الحزب وقد سبق والتقيت رئيس هذا الحزب في العام (1978) في حوار صحافي، في منزله من الطراز الفيكتوري في لندن، وهو منزل ضخم حاول صاحبه ان يحفظ فيه بقايا آثار الامبراطورية، فقد كان ضابطاً متقاعداً في الجيش البريطاني، خدم ما يزيد على (15) عاماً في الهند، وعاد الى بلده بعد ان اعلنت الهند استقلالها بقيادة المهاتما غاندي، وبعد عودته اكتشف ان هناك مهمة عاجلة تنتظره وهي تحرير بريطانيا من الهنود والذين استوطنوها. ومع ان هؤلاء الهنود لم يأتوا الى لندن في غالب الاحيان بمحض ارادتهم بل تم شحنهم وارغموا على العمل فيها، في مطلع القرن الماضي، وتم الاعتماد على قوة سواعدهم في حفر الانفاق لتسيير الميترو الذي لازال يعمل حتى اليوم، اقول مع ذلك فإن الضابط البريطاني المتقاعد، قائد الحزب الوطني، اخذ على عاتق حزبه مهمة «تنظيف» بريطانيا من هؤلاء الهنود، قال في اثناء الحوار: «لست عنصرياً، انني احترم هؤلاء الهنود، وقد عشت بينهم اعواماً، ولكن اسمع، انهم لا ينتمون الينا، لا ينتمون الى هذا المكان، ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم تختلف عن ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، ولذلك من الافضل لهم ان يرحلوا، ان يعودوا الى بلادهم»، وعندما سألته عن التعددية الثقافية والتعايش بين حضارتين تغني كل منهما الاخرى، قال ومن دون ان يبتسم: هذا ممكن ولكن ربما بعد الف عام، فالحضارات لا تتزاوج بين يوم وليلة. من أين تأتي الكراهية؟ تذكرت الضابط البريطاني المتقاعد واركان حزبه، ومعظمهم جاوز الستين، في ذلك المنزل الفيكتوري الضخم الذي لم يعترف حتى اليوم ربما بزوال الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، تذكرته وانا اشاهد الفتيان البريطانيين البيض على شاشة التلفزيون وهم يهاجمون بحقد جارف محلات وسيارات البريطانيين الآسيويين ويحطمونها ويشعلون فيها النيران، ولو ان هذا كان يحدث في رواندا الافريقية ربما كان مفهوماً، ولكنه يحدث في اعرق الديمقراطيات الغربية، وفي بلد يكاد يكون فيه كل مواطن حزبياً، وفي مجتمع يعلن، ليلاً نهاراً وعلى لسان حكومته والمعارضة فخره واعتزازه بأنه مجتمع يؤمن بالتعدد الثقافي، وتكرس الحكومات هذه التعددية في قوانينها وسلوكها. فمن اين جاءت هذه العنصرية اذن؟ التراث وبذور الحرب الاجابة تستدعي سؤالاً اخر: هل تقتصر ثقافة الحقد على البيض وحدهم؟ هنا ربما من المفيد العودة الى شبه القارة الهندية وهي تضم الهند وباكستان وبنجلاديش، فالتراث في تلك البلدان هو من يحكم، ومع ان الهند تعتبر اعرق ديمقراطية في اسيا، وعدد سكانها تجاوز المليار نسمة، الا انها من خلال الانتخابات الاخيرة، كما في اللقاء الذي جمع مؤخراً بين رئيس وزرائها فاجبايي، ورئيس دولة باكستان الجنرال برويز مشرف، فإن هذا التراث كان يتداعى من الماضي الى المستقبل، ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» فإنه منذ العام 1947 وقعت بين الهندوس والمسلمين حوالي ثمانية آلاف معركة واشتباك، وتم تهجير حوالي 12 مليون هندي ما بين الهند وباكستان عندما اعلنت الاخيرة انفصالها، كما ان 200 الف قتيل سقطوا خلال حرب الانفصال، وهذا الرقم يبدو متواضعاً اذا قارناه بحوالي مليوني قتيل سقطوا في حرب انفصال بنجلاديش عن باكستان. اذن فإن الدعوة الى المحافظة على العادات والتقاليد وحفظ التراث قد تحمل في رحمها اكثر من جنين عنصري او طائفي، وربما تكون اقرب الى الدعوة لاستيلاد حروب جديدة من رحم الماضي. فتش عن الفقر وعودة الى صيف بريطانيا الساخن، يقول تقرير نشرته مجلة «الايكوفوميست» البريطانية تعليقاً على الاشتباكات العنصرية الاخيرة، وهي مرشحة ان تتجدد: لا يمكن الفصل بين هذه الاحداث العنصرية وبين الفقر، حيث ان المهاجرين الجدد وفدوا من باكستان وبنجلاديش في الستينيات من القرن الماضي، وكانوا يعملون بأرخص الاجور في مصانع النسيج، وكانت تلك المصانع، في تلك الفترة تشكل قوة اقتصادية بريطانية ضاربة، تغزو بها اسواق العالم، ولكن في السبعينيات والثمانينيات تغيرت الاوضاع وبدأت مصانع النسيج تقفل ابوابها وتسرح عمالها وانتقل جميع المهاجرين للعمل في مهن هامشية وتدهور مستوى معيشتهم في احيائهم، وشمل هذا التدهور العمال البيض ايضاً. وهكذا فإن مدنا مثل بيرنللي لا يزيد عدد سكانها عن 92 الف نسمة، ولا تزيد نسبة العمال المهاجرين، فيها عن (7.5) في المئة من عدد سكان تحولت الى خط تماس بين الآسيويين والبيض، وكانت ثقافة الحقد التي يغذيها الحزب الوطني هي الصاعق الذي فجر الاحداث الاخيرة. تقول سيدة بيضاء: لست ضد هذه الاسر الآسيوية، وانا احترم طريقة حياتها، ولكن ما اقف ضده وبقوة هو ان يسبقونا في الحصول على منازل يقوم القطاع العام بالانفاق على بنائها، نحن نستحقها اكثر منهم، بينما ينقل التقرير بالمقابل عن الجامعي الآسيوي في جامعة بريستول طارق مودود قوله: «ان الثقافة المتعددة هي النقيض للتجانس»، اي ان الدعوة للانصهار الثقافي في بوتقة الاغلبية تعني الغاء هذا التعدد والتنوع الثقافي. وما بين التعددية والتجانس تسير الديمقراطية على حد السيف. بقلم: شوقي رافع
حوار مع رئيس الحزب وقد سبق والتقيت رئيس هذا الحزب في العام (1978) في حوار صحافي، في منزله من الطراز الفيكتوري في لندن، وهو منزل ضخم حاول صاحبه ان يحفظ فيه بقايا آثار الامبراطورية، فقد كان ضابطاً متقاعداً في الجيش البريطاني، خدم ما يزيد على (15) عاماً في الهند، وعاد الى بلده بعد ان اعلنت الهند استقلالها بقيادة المهاتما غاندي، وبعد عودته اكتشف ان هناك مهمة عاجلة تنتظره وهي تحرير بريطانيا من الهنود والذين استوطنوها. ومع ان هؤلاء الهنود لم يأتوا الى لندن في غالب الاحيان بمحض ارادتهم بل تم شحنهم وارغموا على العمل فيها، في مطلع القرن الماضي، وتم الاعتماد على قوة سواعدهم في حفر الانفاق لتسيير الميترو الذي لازال يعمل حتى اليوم، اقول مع ذلك فإن الضابط البريطاني المتقاعد، قائد الحزب الوطني، اخذ على عاتق حزبه مهمة «تنظيف» بريطانيا من هؤلاء الهنود، قال في اثناء الحوار: «لست عنصرياً، انني احترم هؤلاء الهنود، وقد عشت بينهم اعواماً، ولكن اسمع، انهم لا ينتمون الينا، لا ينتمون الى هذا المكان، ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم تختلف عن ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، ولذلك من الافضل لهم ان يرحلوا، ان يعودوا الى بلادهم»، وعندما سألته عن التعددية الثقافية والتعايش بين حضارتين تغني كل منهما الاخرى، قال ومن دون ان يبتسم: هذا ممكن ولكن ربما بعد الف عام، فالحضارات لا تتزاوج بين يوم وليلة. من أين تأتي الكراهية؟ تذكرت الضابط البريطاني المتقاعد واركان حزبه، ومعظمهم جاوز الستين، في ذلك المنزل الفيكتوري الضخم الذي لم يعترف حتى اليوم ربما بزوال الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، تذكرته وانا اشاهد الفتيان البريطانيين البيض على شاشة التلفزيون وهم يهاجمون بحقد جارف محلات وسيارات البريطانيين الآسيويين ويحطمونها ويشعلون فيها النيران، ولو ان هذا كان يحدث في رواندا الافريقية ربما كان مفهوماً، ولكنه يحدث في اعرق الديمقراطيات الغربية، وفي بلد يكاد يكون فيه كل مواطن حزبياً، وفي مجتمع يعلن، ليلاً نهاراً وعلى لسان حكومته والمعارضة فخره واعتزازه بأنه مجتمع يؤمن بالتعدد الثقافي، وتكرس الحكومات هذه التعددية في قوانينها وسلوكها. فمن اين جاءت هذه العنصرية اذن؟ التراث وبذور الحرب الاجابة تستدعي سؤالاً اخر: هل تقتصر ثقافة الحقد على البيض وحدهم؟ هنا ربما من المفيد العودة الى شبه القارة الهندية وهي تضم الهند وباكستان وبنجلاديش، فالتراث في تلك البلدان هو من يحكم، ومع ان الهند تعتبر اعرق ديمقراطية في اسيا، وعدد سكانها تجاوز المليار نسمة، الا انها من خلال الانتخابات الاخيرة، كما في اللقاء الذي جمع مؤخراً بين رئيس وزرائها فاجبايي، ورئيس دولة باكستان الجنرال برويز مشرف، فإن هذا التراث كان يتداعى من الماضي الى المستقبل، ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» فإنه منذ العام 1947 وقعت بين الهندوس والمسلمين حوالي ثمانية آلاف معركة واشتباك، وتم تهجير حوالي 12 مليون هندي ما بين الهند وباكستان عندما اعلنت الاخيرة انفصالها، كما ان 200 الف قتيل سقطوا خلال حرب الانفصال، وهذا الرقم يبدو متواضعاً اذا قارناه بحوالي مليوني قتيل سقطوا في حرب انفصال بنجلاديش عن باكستان. اذن فإن الدعوة الى المحافظة على العادات والتقاليد وحفظ التراث قد تحمل في رحمها اكثر من جنين عنصري او طائفي، وربما تكون اقرب الى الدعوة لاستيلاد حروب جديدة من رحم الماضي. فتش عن الفقر وعودة الى صيف بريطانيا الساخن، يقول تقرير نشرته مجلة «الايكوفوميست» البريطانية تعليقاً على الاشتباكات العنصرية الاخيرة، وهي مرشحة ان تتجدد: لا يمكن الفصل بين هذه الاحداث العنصرية وبين الفقر، حيث ان المهاجرين الجدد وفدوا من باكستان وبنجلاديش في الستينيات من القرن الماضي، وكانوا يعملون بأرخص الاجور في مصانع النسيج، وكانت تلك المصانع، في تلك الفترة تشكل قوة اقتصادية بريطانية ضاربة، تغزو بها اسواق العالم، ولكن في السبعينيات والثمانينيات تغيرت الاوضاع وبدأت مصانع النسيج تقفل ابوابها وتسرح عمالها وانتقل جميع المهاجرين للعمل في مهن هامشية وتدهور مستوى معيشتهم في احيائهم، وشمل هذا التدهور العمال البيض ايضاً. وهكذا فإن مدنا مثل بيرنللي لا يزيد عدد سكانها عن 92 الف نسمة، ولا تزيد نسبة العمال المهاجرين، فيها عن (7.5) في المئة من عدد سكان تحولت الى خط تماس بين الآسيويين والبيض، وكانت ثقافة الحقد التي يغذيها الحزب الوطني هي الصاعق الذي فجر الاحداث الاخيرة. تقول سيدة بيضاء: لست ضد هذه الاسر الآسيوية، وانا احترم طريقة حياتها، ولكن ما اقف ضده وبقوة هو ان يسبقونا في الحصول على منازل يقوم القطاع العام بالانفاق على بنائها، نحن نستحقها اكثر منهم، بينما ينقل التقرير بالمقابل عن الجامعي الآسيوي في جامعة بريستول طارق مودود قوله: «ان الثقافة المتعددة هي النقيض للتجانس»، اي ان الدعوة للانصهار الثقافي في بوتقة الاغلبية تعني الغاء هذا التعدد والتنوع الثقافي. وما بين التعددية والتجانس تسير الديمقراطية على حد السيف. بقلم: شوقي رافع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق