الملف السياسي ـ حكايات سياسية ـ التاريخ: 09 مارس 2001
كانت القاعدة منذ الحرب العالمية الثانية لدى الدول هي سرقة,
وربما خطف العلماء من الدول المهزومة, اليوم وبعد نصف قرن, ورغم نهاية
الحرب الباردة فإن القاعدة ما زالت اياها, ولكن لتطال هذه المرة أستاذة
الجامعات والتعليم الثانوي وحتى الطلاب المبدعين, والصرخة السائدة في أربع
أنحاء المعمورة هي: إنهم يسرقون الأساتذة. صحيفة (صانداي تايمز) البريطانية
نشرت يوم 25 فبراير الماضي تقريراً احتل ثمانية اعمدة تحت عنوان: (سرقة
الأساتذة تثير الغضب في الخارج). وجاء فيه ان بريطانيا تعاني من نقص شديد
في مجال اساتذة التعليم الثانوي, ولسد هذا النقص جهزت عشرات الفرق وأقامت
مكاتب هي اقرب الى القواعد العسكرية في استراليا وجنوب افريقيا
ونيوزيلاندا, واستكملت غاراتها بحملة اعلانية شرسة في صحف تلك البلدان,
يقول احدها: هل تريد ان تحصل على 1800 دولار في الأسبوع؟ (إذن اتصل على
الهاتف..
أو اذهب الى العنوان التالي). وفي العام الماضي وحده نجحت هذه الغزوات البريطانية في (خطف) عشرة آلاف معلم, قامت بشحنهم الى الوطن الأم بريطانيا. وقامت الصرخة, فأعلن وزير التعليم في منطقة ساوث ويلز الاسترالية: إن بريطانيا تصدر أزمة معلميها الى الخارج ورسالتنا لها هي: (ابعدوا دباباتكم عن حدائقنا). وفي الأسبوع الماضي, كما يقول التقرير, فإن وزير التعليم في حكومة جنوب افريقيا قادر اسمال دعا بريطانيا الى ان (تتوقف عن اغراء افضل اساتذتنا عندما تعرض عليهم اربعة اضعاف الراتب الذي يتلقونه هنا, ويضيف الوزير: ان غارات من هذا النوع على جسدنا التعليمي في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا لن تساعد بالتأكيد على تطوير التعليم في جنوب افريقيا). والمشهد نفسه يتكرر في نيوزيلاندا, فيصرخ وزير التعليم فيها: (ان غواية بريطانيا لأساتذتنا سوف تزيد من عمق الأزمة, اذ نحن سوف نحتاج الى 1800 استاذ للمرحلة الثانوية خلال الاعوام الثلاثة المقبلة). ومع ذلك فإن بريطانيا ما زالت تحتاج الى 4000 استاذ للعام الجاري, وهناك مدارس لشدة حاجتها الى الاساتذة تقيم احتفالا في دار البلدية لكل استاذ قادم من الخارج, اما الرد على الغزو البريطاني فيأتي من استراليا, حيث تقول وزيرة التعليم: ان هذه اللعبة يمكن ان يقوم به شخصان, ففي السبعينيات نجحت حملتنا في استقطاب الاساتذة البريطانيين عندما وضعنا اعلانات في الصحف تقول: (معلم تحت الشمس, ومعها صورة لأستاذ يرتدي الشورت بينما هو يقوم بالتعليم). واخطر ما في هذه المواجهة هي انها تستهدف سرقة معلمي الرياضيات والعلوم بشكل اساسي, اي ما تعتبره الدول في عصر الاتصالات والمعلومات انه يشكل مناجم المستقبل وثروتها الباقية وادمغتها الحيّة. حروب الجامعات وما يجري على صعيد الجامعات في العالم ليس اقل خطورة, ولعل الاشارة الى ان الولايات المتحدة وحدها نجحت في استيراد ما يزيد على 50% من حملة شهادة الدكتوراه من الخارج. كيف؟ نتابع تفاصيل عمليات القرصنة المشروعة في تقرير نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال) الامريكية في نهاية شهر فبراير الماضي, وورد فيه ان 14 % من حملة شهادات الدكتوراه, وخاصة في العلوم, غادروا موطنهم الاصلي في ألمانيا ليلتحقوا, كباحثين وأساتذة في الجامعات ومراكز الابحاث الامريكية, وهو ما دفع وزيرة التعليم الاتحادية في ألمانيا ادلجارو بولمان الى القيام شخصياً برحلة الى امريكا قابلت خلالها هؤلاء الاساتذة المهاجرين لتطرح عليهم السؤال التالي: لماذا يرى معظمكم ان وظيفة في امريكا هي اكثر اغراء من وظيفة يحصل عليها في ألمانيا؟ وكانت الاجابات متفاوتة ولكنها تكاد تلتقي عند نقطة واحدة وهي ان امريكا تمنح الدكاتره فرصا للعمل والقيام بأبحاث وتطوير تخصصاتهم اكثر مما تمنحه المانيا, وخاصة للخريجين الجدد الذين يحتاجون في بلدهم الى العمل تحت اشراف (استاذ) بينما في امريكا فإن الخريج يستطيع ان يقوم بالابحاث التي يرغب فيها بتمويل من الجامعة او من الشركات الكبرى, وهو ما لا يحصل في ألمانيا. اذن فإن البلاد التي اطلقت عباقرة القرن العشرين من كارل ماركس الى البرت اينشتاين, مرورا بعشرات المؤلفين والشعراء تعاني اليوم من هجرة أدمغتها الى الخارج, والسبب كما يقول تقرير الصحيفة الامريكية هي ان اوروبا عموماً وألمانيا بالذات, تعتبر ان التعليم هو مهمة الدولة, والحكومة الاتحادية, بينما تمنح امريكا القطاع الخاص الدور الأكبر في تطوير التعليم, ومن هنا تكاد المنافسة تكون معدومة في ألمانيا, سواء بين الاساتذة او بين الطلاب, كما ان تجديد مناهج وأساليب التعليم يبدو مفتوحاً في امريكا, بينما يواجه في ألمانيا بيروقراطية الدولة. والنتيجة هي نجاح الولايات المتحدة في استقطاب الخبرات العلمية والأكاديمية الأوروبية, في عمليات قرصنة مشروعة تمنح (الضحايا) فرصا للتطور قلّ ان تتوفر في أي بلد آخر. ... والطلاب يهرولون أيضاً وما يجري على صعيد الاساتذة يجري ايضا على صعيد استقطاب الطلاب, مما اضطر ألمانيا الى تعديل قوانين الهجرة لديها بحيث تسمح للطلاب الدارسين في ألمانيا ان يبقوا فيها بعد التخرج وان يبحثوا عن فرص عمل تناسبهم, وهي خطوة كانت الولايات المتحدة رائدة فيها. ما جرى في لبنان؟ ماذا على صعيد العالم العربي والخليج؟ نأخذ مثالا في لبنان, حيث الجامعة اللبنانية الرسمية تكاد تستأثر بمعظم الطلاب, بينما الجامعات الاخرى التي يديرها القطاع الخاص تستقطب النخبة فقط. في الشهر الماضي تجمع حوالي ثمانين طالبا مجازين في الحقوق امام نقابة المحامين في مدينة طرابلس شمال بيروت احتجاجا على رسوبهم في امتحانات النقابة, وهي امتحانات ملزمة لمن يريد التسجيل عضوا في النقابة لممارسة مهمة المحاماة. اما عدد الطلاب الناجحين في تلك الامتحانات فلم يزد على 13 طالبا فقط. نقيب المحامين في طرابلس علّق على حركة احتجاج الطلاب قائلا: ان النظام المتدني للتعليم في كليات الحقوق وخصوصا في الجامعة اللبنانية الرسمية يؤدي الى تدني مستوى الخريجين. وأضاف النقيب: من غير المقبول ان يعطى الطالب شهادة في الحقوق وهو لا يتقن الكتابة في لغة ما). وهكذا فإن التعليم الرسمي سواء كان في ألمانيا أم في لبنان يبقى قوة طاردة للابداع والموهبة والمنافسة, على نقيض التعليم الخاص. ... وجامعات الخليج ومثال آخر من الخليج, فقبل سنوات قررت جامعة دولة الامارات في مدينة العين رفع مرتبات الاساتذة في الجامعة كي تكون قادرة على استقطاب الكفاءات في المواد الاقتصادية والعلمية, وتبعتها في الطريق نفسه جامعة الكويت, وهناك روايات تتردد عن رفع الرواتب في جامعة قطر. الرواتب هنا تبدو الحافز الرئيسي على التحاق الاساتذة من امريكا ومن اوروبا بجامعات الخليج, ومع ذلك فإن هذا الحافز وحده لا يكفي, اذ انه في ظل المنافسة الشديدة بين الجامعات في دول الارض كلها (لسرقة) المواهب العلمية والاكاديمية فإنه لابد من توفير حافز آخر وهو مراكز الابحاث التي نجحت امريكا في تحويلها الى قبلة للعلماء, بينما لا تحصل هذه المراكز سواء كانت في العالم العربي أو في الخليج على موازنة تذكر, وبالتالي فإن الجامعات في الخليج, وكما يلاحظ اكاديمي مرموق لا تنجح غالبا الا في استقطاب نوعين من الاساتذة, اما الخريجين الجدد في مجال تخصصهم ممن يحتاجون الى سنوات من الخبرة, او من الاساتذة المشرفين على التقاعد, بينما بالمقابل, فإن مؤسسات القطاع الخاص, وخاصة المصارف وشركات التأمين تنجح في استقطاب اصحاب المواهب, سواء كانوا مواطنين أو اجانب, ومن مختلف القارات, وهو ما يكشف ان الحرب على الطريقة الامريكية هي وحدها القادرة على منع (سرقة) الاساتذة.
أو اذهب الى العنوان التالي). وفي العام الماضي وحده نجحت هذه الغزوات البريطانية في (خطف) عشرة آلاف معلم, قامت بشحنهم الى الوطن الأم بريطانيا. وقامت الصرخة, فأعلن وزير التعليم في منطقة ساوث ويلز الاسترالية: إن بريطانيا تصدر أزمة معلميها الى الخارج ورسالتنا لها هي: (ابعدوا دباباتكم عن حدائقنا). وفي الأسبوع الماضي, كما يقول التقرير, فإن وزير التعليم في حكومة جنوب افريقيا قادر اسمال دعا بريطانيا الى ان (تتوقف عن اغراء افضل اساتذتنا عندما تعرض عليهم اربعة اضعاف الراتب الذي يتلقونه هنا, ويضيف الوزير: ان غارات من هذا النوع على جسدنا التعليمي في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا لن تساعد بالتأكيد على تطوير التعليم في جنوب افريقيا). والمشهد نفسه يتكرر في نيوزيلاندا, فيصرخ وزير التعليم فيها: (ان غواية بريطانيا لأساتذتنا سوف تزيد من عمق الأزمة, اذ نحن سوف نحتاج الى 1800 استاذ للمرحلة الثانوية خلال الاعوام الثلاثة المقبلة). ومع ذلك فإن بريطانيا ما زالت تحتاج الى 4000 استاذ للعام الجاري, وهناك مدارس لشدة حاجتها الى الاساتذة تقيم احتفالا في دار البلدية لكل استاذ قادم من الخارج, اما الرد على الغزو البريطاني فيأتي من استراليا, حيث تقول وزيرة التعليم: ان هذه اللعبة يمكن ان يقوم به شخصان, ففي السبعينيات نجحت حملتنا في استقطاب الاساتذة البريطانيين عندما وضعنا اعلانات في الصحف تقول: (معلم تحت الشمس, ومعها صورة لأستاذ يرتدي الشورت بينما هو يقوم بالتعليم). واخطر ما في هذه المواجهة هي انها تستهدف سرقة معلمي الرياضيات والعلوم بشكل اساسي, اي ما تعتبره الدول في عصر الاتصالات والمعلومات انه يشكل مناجم المستقبل وثروتها الباقية وادمغتها الحيّة. حروب الجامعات وما يجري على صعيد الجامعات في العالم ليس اقل خطورة, ولعل الاشارة الى ان الولايات المتحدة وحدها نجحت في استيراد ما يزيد على 50% من حملة شهادة الدكتوراه من الخارج. كيف؟ نتابع تفاصيل عمليات القرصنة المشروعة في تقرير نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال) الامريكية في نهاية شهر فبراير الماضي, وورد فيه ان 14 % من حملة شهادات الدكتوراه, وخاصة في العلوم, غادروا موطنهم الاصلي في ألمانيا ليلتحقوا, كباحثين وأساتذة في الجامعات ومراكز الابحاث الامريكية, وهو ما دفع وزيرة التعليم الاتحادية في ألمانيا ادلجارو بولمان الى القيام شخصياً برحلة الى امريكا قابلت خلالها هؤلاء الاساتذة المهاجرين لتطرح عليهم السؤال التالي: لماذا يرى معظمكم ان وظيفة في امريكا هي اكثر اغراء من وظيفة يحصل عليها في ألمانيا؟ وكانت الاجابات متفاوتة ولكنها تكاد تلتقي عند نقطة واحدة وهي ان امريكا تمنح الدكاتره فرصا للعمل والقيام بأبحاث وتطوير تخصصاتهم اكثر مما تمنحه المانيا, وخاصة للخريجين الجدد الذين يحتاجون في بلدهم الى العمل تحت اشراف (استاذ) بينما في امريكا فإن الخريج يستطيع ان يقوم بالابحاث التي يرغب فيها بتمويل من الجامعة او من الشركات الكبرى, وهو ما لا يحصل في ألمانيا. اذن فإن البلاد التي اطلقت عباقرة القرن العشرين من كارل ماركس الى البرت اينشتاين, مرورا بعشرات المؤلفين والشعراء تعاني اليوم من هجرة أدمغتها الى الخارج, والسبب كما يقول تقرير الصحيفة الامريكية هي ان اوروبا عموماً وألمانيا بالذات, تعتبر ان التعليم هو مهمة الدولة, والحكومة الاتحادية, بينما تمنح امريكا القطاع الخاص الدور الأكبر في تطوير التعليم, ومن هنا تكاد المنافسة تكون معدومة في ألمانيا, سواء بين الاساتذة او بين الطلاب, كما ان تجديد مناهج وأساليب التعليم يبدو مفتوحاً في امريكا, بينما يواجه في ألمانيا بيروقراطية الدولة. والنتيجة هي نجاح الولايات المتحدة في استقطاب الخبرات العلمية والأكاديمية الأوروبية, في عمليات قرصنة مشروعة تمنح (الضحايا) فرصا للتطور قلّ ان تتوفر في أي بلد آخر. ... والطلاب يهرولون أيضاً وما يجري على صعيد الاساتذة يجري ايضا على صعيد استقطاب الطلاب, مما اضطر ألمانيا الى تعديل قوانين الهجرة لديها بحيث تسمح للطلاب الدارسين في ألمانيا ان يبقوا فيها بعد التخرج وان يبحثوا عن فرص عمل تناسبهم, وهي خطوة كانت الولايات المتحدة رائدة فيها. ما جرى في لبنان؟ ماذا على صعيد العالم العربي والخليج؟ نأخذ مثالا في لبنان, حيث الجامعة اللبنانية الرسمية تكاد تستأثر بمعظم الطلاب, بينما الجامعات الاخرى التي يديرها القطاع الخاص تستقطب النخبة فقط. في الشهر الماضي تجمع حوالي ثمانين طالبا مجازين في الحقوق امام نقابة المحامين في مدينة طرابلس شمال بيروت احتجاجا على رسوبهم في امتحانات النقابة, وهي امتحانات ملزمة لمن يريد التسجيل عضوا في النقابة لممارسة مهمة المحاماة. اما عدد الطلاب الناجحين في تلك الامتحانات فلم يزد على 13 طالبا فقط. نقيب المحامين في طرابلس علّق على حركة احتجاج الطلاب قائلا: ان النظام المتدني للتعليم في كليات الحقوق وخصوصا في الجامعة اللبنانية الرسمية يؤدي الى تدني مستوى الخريجين. وأضاف النقيب: من غير المقبول ان يعطى الطالب شهادة في الحقوق وهو لا يتقن الكتابة في لغة ما). وهكذا فإن التعليم الرسمي سواء كان في ألمانيا أم في لبنان يبقى قوة طاردة للابداع والموهبة والمنافسة, على نقيض التعليم الخاص. ... وجامعات الخليج ومثال آخر من الخليج, فقبل سنوات قررت جامعة دولة الامارات في مدينة العين رفع مرتبات الاساتذة في الجامعة كي تكون قادرة على استقطاب الكفاءات في المواد الاقتصادية والعلمية, وتبعتها في الطريق نفسه جامعة الكويت, وهناك روايات تتردد عن رفع الرواتب في جامعة قطر. الرواتب هنا تبدو الحافز الرئيسي على التحاق الاساتذة من امريكا ومن اوروبا بجامعات الخليج, ومع ذلك فإن هذا الحافز وحده لا يكفي, اذ انه في ظل المنافسة الشديدة بين الجامعات في دول الارض كلها (لسرقة) المواهب العلمية والاكاديمية فإنه لابد من توفير حافز آخر وهو مراكز الابحاث التي نجحت امريكا في تحويلها الى قبلة للعلماء, بينما لا تحصل هذه المراكز سواء كانت في العالم العربي أو في الخليج على موازنة تذكر, وبالتالي فإن الجامعات في الخليج, وكما يلاحظ اكاديمي مرموق لا تنجح غالبا الا في استقطاب نوعين من الاساتذة, اما الخريجين الجدد في مجال تخصصهم ممن يحتاجون الى سنوات من الخبرة, او من الاساتذة المشرفين على التقاعد, بينما بالمقابل, فإن مؤسسات القطاع الخاص, وخاصة المصارف وشركات التأمين تنجح في استقطاب اصحاب المواهب, سواء كانوا مواطنين أو اجانب, ومن مختلف القارات, وهو ما يكشف ان الحرب على الطريقة الامريكية هي وحدها القادرة على منع (سرقة) الاساتذة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق