من الملف السياسي: قضايا صغيرة: التاريخ: 08 أكتوبر 1999
ثلاث محاكمات استأثرت الاسبوع الماضي باهتمام الرأي العام,
عربيا ودوليا, هي محاكمة رئيس الوزراء الايطالي السابق جوليو اندريوتي في
ايطاليا, ومحاكمة الرئيس التشيلي الاسبق اوجستو بينوشيه في بريطانيا,
ومحاكمة الدكتور احمد البغدادي في الكويت, وفي المحاكمات الثلاث ترددت
عبارة(الدوافع السياسية)للطعن في(شرعية)المحاكمة , وفي المحاكمات الثلاث
ايضا كان الاهتمام (بالمتهمين) يتجاوز الجمهور المحلي وتنخرط في متابعته
احزاب وتيارات ومؤسسات اقليمية ودولية, ما يجعل من (المحاكمة) عنوانا
لمواجهات يخوضها المجتمع المدني هي اقرب الى الحروب التي يخوضها المجتمع
العسكري, وان اختلفت الجبهات. اندريوتي والأيدي النظيفة نبدأ مع جوليو
اندريوتي وعمره اليوم 80 عاما, وقد تولى رئاسة الوزراء في ايطاليا ممثلا
للحزب المسيحي الديمقراطي سبع مرات.
التهمة الموجهة اليه هي الامر بقتل الصحافي الايطالي مينو بيكوريلي في العام 1979 لانه حاول ابتزازه, الشاهد الرئيسي في القضية هو توماسو بوسكيتا وكان احد اقطاب الحزب المسيحي الديمقراطي في تلك الفترة, ومقربا من اندريوتي, قبل ان يخرج من الحزب ويلتحق بخصومه, المحاكمة استمرت عامين ونصف العام واستمع خلالها القاضي الى 231 شاهدا, وجمعت المحكمة الادلة والشهادات في 650 الف صفحة مطبوعة, وفي يوم 24 سبتمبر الماضي, اعلنت المحكمة براءة اندريوتي من التهمة, ما يكشف عن انها قامت على (دوافع سياسية) ـ في المحاكمات الجارية في لبنان اليوم يسمونها كيدية ـ واحتفلت الاحزاب اليمينية في ايطاليا وعموم اوروبا باعلان البراءة, واستعاد (الحرس القديم) الذي حكم ايطاليا على مدى 46 عاما, بعد الحرب العالمية الثانية, بعضا من كبريائه, وطالب بتشكيل لجنة محايدة للتحقيق في المحاكمات التي اطاحت بمئات السياسيين في الحملة التي قادتها (الايادي النظيفة) ضد ما اسمته الفساد الحكومي وارتباط المسؤولين مع قيادات المافيا, ومشاركة قادتها في حكم ايطاليا, ويرى الحزب الديمقراطي المسيحي ان احدى سمات اللجنة هي الكشف عن ارتباط الحزب الشيوعي الايطالي بالاتحاد السوفييتي, و(كان اسوأ من المافيا) على حد قول احد زعماء الحزب, وقد رد الحزب الديمقراطي (الشيوعي سابقا) فوافق على تشكيل اللجنة, شرط ان تكشف عن المؤامرات التي نفذها اليمين الحاكم لاقصاء الحزب الشيوعي عن السلطة خلال اربعة عقود. ولكن بعد الاتفاق على تشكيل لجنة التحقيق, او لجنة اعادة كتابة تاريخ ما بعد الحرب ليس لادانة المتهمين بل لتسجيل الحقائق كما جرت, فان الخلاف بين اليمين واليسار يقوم حاليا حول اعضاء اللجنة هل يكونون من النواب ام من القضاة المستقلين ومن هيئات محايدة؟ وتجيب مجلة (الايكونومست) البريطانية: وهل في ايطاليا كلها اشخاص مستقلون او هيئات محايدة؟ المعركة سياسية بالتأكيد ولكن عنوانها هو (المحاكمة) والعبارة تفترض ان القضاء مستقل ونزيه ومحايد (!) بينوشيه.. العالمي ارنستو بينوشيه, ديكتاتور تشيلي السابق يبلغ من العمر اليوم 83 عاما, وصل الى بريطانيا لعلاج آلام في ظهره, ولكنه يواجه اليوم (محاكمة القرن) وهي الاشهر منذ محاكمات نورمبرج للقادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية. رسميا فان ثلاث دول معنية بالقضية هي بريطانيا, وتشيلي واسبانيا, ولكن واقعيا فان محاكمة بينوشيه عالمية لانها فتحت لاول مرة في التاريخ سابقة تمنح الضحايا حق مقاضاة المسؤولين, وعلى اي مستوى كانوا, ما ان يغادروا بلدانهم. المدعي العام الاسباني بالتازار جارسون كان جاهزا مع ملفه ما ان وطأت اقدام بينوشيه الارض البريطانية, ووجه الى الدكتاتور السابق 35 تهمة من بينها الامر بخطف وتعذيب وقتل مواطنين اسبان, وطالب باسترداد بينوشيه لمحاكمته في اسبانيا, ارض الضحايا وفي شهر مارس الماضي صدر عن محكمة اللوردات في بريطانيا القرار التاريخي بان بينوشيه لايتمتع بالحصانة, وبالتالي يمكن تسليمه في حال ثبوت الاتهامات, الى اسبانيا. دولة تشيلي رفعت قضية امام محكمة العدل الدولية ضد اسبانيا وفي الاسبوع الماضي ظهرت في المحكمة مفاجآت جديدة وهي ان بينوشيه لايمكن محاكمته الا بتهمة واحدة وهي حالات التعذيب التي امر بها, بداية من العام 1988, وهو العام الذي وقعت فيه بريطانيا على الاتفاقية الدولية المناهضة للتعذيب ووجد محامو الدفاع في هذه الفرصة مخرجا اذ بات عليهم ان يبرهنوا ان اي مواطن اسباني لم يتم تعذيبه في تشيلي منذ العام المذكور, ولكن المدعي العام البريطاني ومعه الاسباني اضافا الى الملف عشرات اخرى من حالات التعذيب. المحاكمة قد تستمر سنوات, ومحامو الدفاع مازالوا يصرون على انها محاكمة تقوم على (دوافع سياسية) وليس جنائية, واذا نجحوا في اثبات ذلك فلابد ان تصدر المحكمة حكما ببراءة الدكتاتور, ولعل نظرة الى (شارع باو) حيث تنعقد المحاكمة تكشف سهولة المهمة فأهل اليمين واهل اليسار يتواجهان في الشارع وعلى باب المحكمة وكل منهم يحمل لافتاته, و... كلها سياسية, ومهما كان الحكم الذي سوف يصدر عن المحكمة, اذا طال عمر بينوشيه أم قصر, فهو حكم سياسي, ورسالة الى العالم كله. البغدادي.. وحرية الرأي الدكتور احمد البغدادي رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت والكاتب والمعلق الصحافي, ليس في حجم اندريوتي ولا بينوشيه عالميا, ولكنه في العالم العربي على الاقل, احد رموز الليبرالية والحداثة والديمقراطية. ومحاكمة البغدادي وصدور الحكم بحقه بالسجن مدة شهر مع النفاذ, جراء مقابلة مع محلية طلابية نشرت قبل 3 سنوات هو حكم قضائي وليس سياسيا حيث ان القضاء الكويتي وباعتراف الجميع, يتمتع بالنزاهة والحيدة والاستقلال, وهو حكم بموجب القانون, فالخلل اذن هو في قانون المطبوعات الذي يبيح سجن الكاتب, بسبب رأي ابداه, وليس في القضاء, وما يمنح قضية البغدادي ابعادا سياسية هو انها تأتي اولا في سياق مجموعة قضايا, ينظرها القضاء في الكويت, والمتهمون فيها والمتهمات كتاب وادباء واديبات واصحاب دور نشر, وبالتالي فان المحاكمة, وبموجب قانون المطبوعات, تستهدف حرية الرأي والتعبير, وهذه يصطف خلفها مجموعات فكرية وسياسية, في طليعتها جمعية الصحافيين وجمعية حقوق الانسان, ومؤسسات فاعلة في المجتمع المدني, ولم يكن صدفة ان جمعية الصحافيين عندما ناشدت امير البلاد الشيخ جابر الاحمد الصباح استخدمت في وصف الدكتور البغدادي بانه سوف يكون (اول سجين رأي) وهو وصف يدفعه الى بؤرة اهتمامات منظمة العفو الدولية وباقي المنظمات التي تدافع عن سجناء الرأي. وقضية البغدادي تأتي ثانيا في سياق حملة للمحافظة على الاخلاق واجتثاث الرذيلة تم خلالها مداهمة عشرات المنازل, وانقسم الشارع بالكويت حولها ما بين مؤيد ومعارض, وهو في النهاية انقسام سياسي وليس اخلاقيا, فالليبراليون يتحدثون عن الدولة البوليسية, بينما التيار الديني يتحدث عن دولة الفضيلة. وقضية البغدادي تأتي ثالثا في سياق المحاكمة المثيرة للدكتور نصر حامد ابو زيد في مصر, وكان اول من دفع بهذه المفارقة العميد المساعد بكلية الشريعة في الكويت الدكتور عبدالرزاق الشايجي في حوار مع محطة (ام. بي. سي) (MBC) التلفزيونية بعيد صدور الحكم. وقضية د. البغدادي تأتي اخيرا في سياق مرحلة نقاهة تمر بها الدول العربية, ودول العالم الثالث, الخارجة من زنزانات انظمة الحكم الفردي المستبد, والمتطلعة الى المزيد من التعددية والديمقراطية والمجالس التمثيلية اسلوبا للحكم والحياة. وفي قضايا الرأي فان الدوافع السياسية تخرج سافرة من دون نقاب.
التهمة الموجهة اليه هي الامر بقتل الصحافي الايطالي مينو بيكوريلي في العام 1979 لانه حاول ابتزازه, الشاهد الرئيسي في القضية هو توماسو بوسكيتا وكان احد اقطاب الحزب المسيحي الديمقراطي في تلك الفترة, ومقربا من اندريوتي, قبل ان يخرج من الحزب ويلتحق بخصومه, المحاكمة استمرت عامين ونصف العام واستمع خلالها القاضي الى 231 شاهدا, وجمعت المحكمة الادلة والشهادات في 650 الف صفحة مطبوعة, وفي يوم 24 سبتمبر الماضي, اعلنت المحكمة براءة اندريوتي من التهمة, ما يكشف عن انها قامت على (دوافع سياسية) ـ في المحاكمات الجارية في لبنان اليوم يسمونها كيدية ـ واحتفلت الاحزاب اليمينية في ايطاليا وعموم اوروبا باعلان البراءة, واستعاد (الحرس القديم) الذي حكم ايطاليا على مدى 46 عاما, بعد الحرب العالمية الثانية, بعضا من كبريائه, وطالب بتشكيل لجنة محايدة للتحقيق في المحاكمات التي اطاحت بمئات السياسيين في الحملة التي قادتها (الايادي النظيفة) ضد ما اسمته الفساد الحكومي وارتباط المسؤولين مع قيادات المافيا, ومشاركة قادتها في حكم ايطاليا, ويرى الحزب الديمقراطي المسيحي ان احدى سمات اللجنة هي الكشف عن ارتباط الحزب الشيوعي الايطالي بالاتحاد السوفييتي, و(كان اسوأ من المافيا) على حد قول احد زعماء الحزب, وقد رد الحزب الديمقراطي (الشيوعي سابقا) فوافق على تشكيل اللجنة, شرط ان تكشف عن المؤامرات التي نفذها اليمين الحاكم لاقصاء الحزب الشيوعي عن السلطة خلال اربعة عقود. ولكن بعد الاتفاق على تشكيل لجنة التحقيق, او لجنة اعادة كتابة تاريخ ما بعد الحرب ليس لادانة المتهمين بل لتسجيل الحقائق كما جرت, فان الخلاف بين اليمين واليسار يقوم حاليا حول اعضاء اللجنة هل يكونون من النواب ام من القضاة المستقلين ومن هيئات محايدة؟ وتجيب مجلة (الايكونومست) البريطانية: وهل في ايطاليا كلها اشخاص مستقلون او هيئات محايدة؟ المعركة سياسية بالتأكيد ولكن عنوانها هو (المحاكمة) والعبارة تفترض ان القضاء مستقل ونزيه ومحايد (!) بينوشيه.. العالمي ارنستو بينوشيه, ديكتاتور تشيلي السابق يبلغ من العمر اليوم 83 عاما, وصل الى بريطانيا لعلاج آلام في ظهره, ولكنه يواجه اليوم (محاكمة القرن) وهي الاشهر منذ محاكمات نورمبرج للقادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية. رسميا فان ثلاث دول معنية بالقضية هي بريطانيا, وتشيلي واسبانيا, ولكن واقعيا فان محاكمة بينوشيه عالمية لانها فتحت لاول مرة في التاريخ سابقة تمنح الضحايا حق مقاضاة المسؤولين, وعلى اي مستوى كانوا, ما ان يغادروا بلدانهم. المدعي العام الاسباني بالتازار جارسون كان جاهزا مع ملفه ما ان وطأت اقدام بينوشيه الارض البريطانية, ووجه الى الدكتاتور السابق 35 تهمة من بينها الامر بخطف وتعذيب وقتل مواطنين اسبان, وطالب باسترداد بينوشيه لمحاكمته في اسبانيا, ارض الضحايا وفي شهر مارس الماضي صدر عن محكمة اللوردات في بريطانيا القرار التاريخي بان بينوشيه لايتمتع بالحصانة, وبالتالي يمكن تسليمه في حال ثبوت الاتهامات, الى اسبانيا. دولة تشيلي رفعت قضية امام محكمة العدل الدولية ضد اسبانيا وفي الاسبوع الماضي ظهرت في المحكمة مفاجآت جديدة وهي ان بينوشيه لايمكن محاكمته الا بتهمة واحدة وهي حالات التعذيب التي امر بها, بداية من العام 1988, وهو العام الذي وقعت فيه بريطانيا على الاتفاقية الدولية المناهضة للتعذيب ووجد محامو الدفاع في هذه الفرصة مخرجا اذ بات عليهم ان يبرهنوا ان اي مواطن اسباني لم يتم تعذيبه في تشيلي منذ العام المذكور, ولكن المدعي العام البريطاني ومعه الاسباني اضافا الى الملف عشرات اخرى من حالات التعذيب. المحاكمة قد تستمر سنوات, ومحامو الدفاع مازالوا يصرون على انها محاكمة تقوم على (دوافع سياسية) وليس جنائية, واذا نجحوا في اثبات ذلك فلابد ان تصدر المحكمة حكما ببراءة الدكتاتور, ولعل نظرة الى (شارع باو) حيث تنعقد المحاكمة تكشف سهولة المهمة فأهل اليمين واهل اليسار يتواجهان في الشارع وعلى باب المحكمة وكل منهم يحمل لافتاته, و... كلها سياسية, ومهما كان الحكم الذي سوف يصدر عن المحكمة, اذا طال عمر بينوشيه أم قصر, فهو حكم سياسي, ورسالة الى العالم كله. البغدادي.. وحرية الرأي الدكتور احمد البغدادي رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت والكاتب والمعلق الصحافي, ليس في حجم اندريوتي ولا بينوشيه عالميا, ولكنه في العالم العربي على الاقل, احد رموز الليبرالية والحداثة والديمقراطية. ومحاكمة البغدادي وصدور الحكم بحقه بالسجن مدة شهر مع النفاذ, جراء مقابلة مع محلية طلابية نشرت قبل 3 سنوات هو حكم قضائي وليس سياسيا حيث ان القضاء الكويتي وباعتراف الجميع, يتمتع بالنزاهة والحيدة والاستقلال, وهو حكم بموجب القانون, فالخلل اذن هو في قانون المطبوعات الذي يبيح سجن الكاتب, بسبب رأي ابداه, وليس في القضاء, وما يمنح قضية البغدادي ابعادا سياسية هو انها تأتي اولا في سياق مجموعة قضايا, ينظرها القضاء في الكويت, والمتهمون فيها والمتهمات كتاب وادباء واديبات واصحاب دور نشر, وبالتالي فان المحاكمة, وبموجب قانون المطبوعات, تستهدف حرية الرأي والتعبير, وهذه يصطف خلفها مجموعات فكرية وسياسية, في طليعتها جمعية الصحافيين وجمعية حقوق الانسان, ومؤسسات فاعلة في المجتمع المدني, ولم يكن صدفة ان جمعية الصحافيين عندما ناشدت امير البلاد الشيخ جابر الاحمد الصباح استخدمت في وصف الدكتور البغدادي بانه سوف يكون (اول سجين رأي) وهو وصف يدفعه الى بؤرة اهتمامات منظمة العفو الدولية وباقي المنظمات التي تدافع عن سجناء الرأي. وقضية البغدادي تأتي ثانيا في سياق حملة للمحافظة على الاخلاق واجتثاث الرذيلة تم خلالها مداهمة عشرات المنازل, وانقسم الشارع بالكويت حولها ما بين مؤيد ومعارض, وهو في النهاية انقسام سياسي وليس اخلاقيا, فالليبراليون يتحدثون عن الدولة البوليسية, بينما التيار الديني يتحدث عن دولة الفضيلة. وقضية البغدادي تأتي ثالثا في سياق المحاكمة المثيرة للدكتور نصر حامد ابو زيد في مصر, وكان اول من دفع بهذه المفارقة العميد المساعد بكلية الشريعة في الكويت الدكتور عبدالرزاق الشايجي في حوار مع محطة (ام. بي. سي) (MBC) التلفزيونية بعيد صدور الحكم. وقضية د. البغدادي تأتي اخيرا في سياق مرحلة نقاهة تمر بها الدول العربية, ودول العالم الثالث, الخارجة من زنزانات انظمة الحكم الفردي المستبد, والمتطلعة الى المزيد من التعددية والديمقراطية والمجالس التمثيلية اسلوبا للحكم والحياة. وفي قضايا الرأي فان الدوافع السياسية تخرج سافرة من دون نقاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق