من الملف السياسي: التاريخ: 17 سبتمبر 1999
يقول الالماني(الشرقي)نوربرت جوكيش(الرأسمالية هزمت
الشيوعية... بالاعلان).وتضيف زوجته سيلفيا, وهي تجلس قربه, بين اولادهما
الثلاثة: (مازالت عقلية الشرق والغرب مسيطرة على المانيا, وسوف تبقى وحتى
مائة عام مقبلة).نوربرت جوكيش ليس رجل سياسة, وكذلك زوجته, هو عامل فني
متخصص في تركيب وتصليح اجهزة التكييف والتدفئة وتمديدات المياه , وزوجته
ربة بيت وسكرتيرة, وهما كانا يتحدثان لمناسبة مرور عشر سنوات على انهيار
السور الفاصل بين الالمانيتين, وتلك كانت بداية انهيار النظام الشيوعي ليس
في اوروبا الشرقية وحدها, بل داخل الاتحاد السوفييتي كله. الملحمة حياة
عائلة (جوكيش) كما تصفها صحيفة (رول ستريت جورنال) الامريكية المحافظة هي
(ملحمة) , فقد كان هذا العامل الفني الساكن في برلين الشرقية, اثناء
المرحلة الشيوعية, في طليعة موجة, زاد افرادها عن مائة الف, وشكلت رأس
الحربة في تهديم سور برلين والنظام الشيوعي بعده ككل.
والملحمة بدأت عندما قرر العامل الفني وزوجته ان يهربا الى برلين الغربية, فزما حقيبة واحدة, وتظاهرا انهما في طريقهما لقضاء اجازة في مدينة براغ في تشيكوسلوفاكيا, كان لديهما شقة مؤقتة في برلين الشرقية, ولكنهما قررا ان يتركا كل شيء يمكن ان يثير الشبهات بانهما يغادران في رحلة لا عودة عنها, تقول سيلفيا, وعمرها 40 عاما: (كانت المسألة هي حرية الاختيار, لو كنا نملك حرية ان نختار, ان تشتري ما نريده وان نسافر حيث نشاء... لم يكن هذا ليحدث ابدا, لم يكن هناك سبب...) , وهكذا انطلق الزوجان في رحلة قطعا خلالها الاف الكيلومترات, بالقطارات والطائرات, لينتهيا في برلين القريبة على بعد اقل من 16 كيلومتراً من منزلهما في برلين الشرقية, يقول روبرت (انا في نهاية المطاف... برليني) . منزل وحديقة وسيارة وعلى مدى عشر سنوات كبرت العائلة, وحققت الحلم الكبير للمجتمع الرأسمالي: منزل مع حديقة وسيارة ومدارس يذهب اليها الاطفال في حي نظيف. تقول سيلفيا (لم نكن نملك أوهاماً كنا نعرف ان علينا ان نعمل وان نعتمد على انفسنا وان نقف على اقدامنا وحدنا, ولم نكن ننتظر اية مساعدة من الدولة) وبعد انهيار السور عاد كثير من اهل برلين الشرقية الى منازلهم واعمالهم السابقة, فقد صارت المانيا موحدة وحرية السفر مضمونة للجميع, ولكن عائلة جوكيش لم تكن بين العائدين, وكان روبرت يقبل كل ما يعرض عليه من عمل, بدأ يبيع السجاد, ولكن بعد عدة اشهر, اعلنت شركة صناعية كبرى انها تحتاج الى كل ما يتوفر لدى روبرت من تعليم وخبرة وحصل روبرت على الوظيفة, كان الراتب يصل الى حوالي 2500 دولار شهريا, وهو الراتب نفسه الذي يتقاضاه العامل الغربي, ولم يكن يحدث هذا دائما, فالعادة جرت ان يحصل الشرقي على فتات مما يحصل عليه الغربي, ولكن ذلك كان في العام 1990, تلك كانت فرصة العمر وقد اقتنصها, كان يعرف انه سوف يستمر في عمله الى ان يتقاعد, كان هذا ما يحدث في المانيا الشرقية. ولكنه فجأة وفي العام 1993 اكتشف انه لم يعد يملك وظيفة, فالشركة باعت القسم الذي يعمل فيه, والمشتري قرر ترشيد الادارة فاستغنى عن معظم الفنيين, وكان روبرت من بينهم, ومنذ ذلك الوقت يمضي روبرت من الوقت في البحث عن عمل اكثر مما يمضي في اي عمل يجده. (اننا نعيش على المساعدات الحكومية, نقبض حوالي 1000 دولار في الشهر, ما يكفي فقط لاطعامنا, ودفع بدل ايجار الشقة, والاولاد يستخدمون المواصلات العامة في الذهاب الى مدارسهم) تقول سيلفيا, وتضيف: (ما يأتي بسهولة... يذهب بسهولة) ويقول روبرت: (لم اعد اتمكن من دفع الاقساط, بعت المنزل والسيارة..) . اعادة تأهيل ومع ذلك فان العائلة الشرقية لا تستسلم بسهولة, يروي روبرت: قالوا لي في مركز التوظيف انني احتاج الى اعادة تأهيل علمي, وافقت وبدأت دورات استمرت ثلاث سنوات, وتخرجت مجددا مليئا بالتوقعات, لقد صرت احمل مواصفات كل ما يطلبه سوق العمل, المهارة والخبرة واعادة التأهيل, ولكن شيئا من هذا لم يحدث, مازلت عاطلا عن العمل. يتوقف لحظة ثم يضيف: لم أيأس, عزمت على تغيير تخصصي, انني مولع بالكمبيوتر, استخدمه دائما واحب ان أبحث فيه, قلت لمركز التوظيف انني اريد ان اتخصص في الكمبيوتر, رفض المركز الطلب, فقد جاء متأخرا بالنسبة لسني, مع اني لم اكن قد بلغت الاربعين بعد, قلت: ولكنني بحاجة الى عمل, اجابوا: سوف ندخلك دورة جديدة, تؤهلك لان تعمل مشرفا على عمال تركيب وصيانة اجهزة التدفئة.. ووافقت, كان هذا يعني ان اشرف على اشخاص لم استطع ان اجد فرصة للعمل مثلهم وقبلت, وانهيت الدورة ولكنني بقيت من دون عمل.. (اتعلم انهم يطلبون عاملا لا يزيد عمره على 25 سنة ولكنه يحمل خبرة 35 سنة) يقولها ضاحكا وتضحك معه زوجته. ... ولكنك لا تملك تقول سيلفيا: الاشياء حولنا هي نفسها التي كنا نشاهدها على شاشة التلفزيون, كنا في برلين الشرقية نلتقط الشبكات الغربية, وكنا نشاهد الاعلانات, وحياة الناس هنا.. لا شيء تغير, تشاهد الاشياء ولكنك لا تستطيع ان تشتريها فانت لا تملك ثمنها.. بل الامر الان اكثر سوءا. وتضيف: ربما كان من الافضل ان تبقى الالمانيتان منفصلتين, اعني ان لا تكون المانيا الشرقية شيوعية بل ان يملك اهلها حرية الاختيار, واذكر في طفولتي انني كنت مغرمة بنوع من الشوكولاتة.. ففتشت عنه وحاولت ان اجده, ولكن قيل ان المصنع اقفل.. بالطبع كان لابد ان يقفل, فقد اندفعنا جميعا لشراء كل ما هو غربي, ولو اننا قررنا ان نشتري من المصانع الشرقية ربما كانت لاتزال قائمة. الشرق لم يتغير وتبلغ هذه الأوديسة ذروتها عندما يروي الزوجان كيف انهما عزما, بعد طول تخطيط وعهد للنفقات على قضاء اجازة في احد منتجعات المانيا الشرقية, تقول سيلفيا (وصلنا المنتجع, اعطونا غرفة للاقامة بعد ان دفعنا, دخلنا الغرفة وشعرت بالفزع, كانت الاسرة نفسها, والاثاث ذاته منذ العهد الشيوعي, حيث كانت الاسرة البروليتارية تقضي اجازتها, قلت اننا عدنا الى ذلك العصر, لا شيء تغير... شعرت بالرعب, وبعد ليلة واحدة, انطلقنا عائدين) . ... ومازالت عائلة جوكيش تقيم اليوم في شقتها المتواضعة في برلين الشرقية: لا سهرات في الخارج لا مطاعم, لا رحلات, لا سيارة, لا عمل, يقول روبرت: (اشعر انني احلت الى التقاعد) . قاموس العصر ولعل حياة هذه العائلة تلخص عصرا بكامله يكشف عن قاموس جديد, فالاعلان التلفزيوني يقوم بالمهمة التي كانت تقوم بها الدعوات الايديولوجية في مطلع هذا القرن, انه لا يتحدث عن العقائد رأسمالية كانت ام اشتراكية, بل عن الاستهلاك والحياة على الطريقة الامريكية, وفي المجتمع الاستهلاكي يغيب التضامن الطبقي لتأخذ مكانة المناقشة في نزعة الاستهلاك, و(اذا حصل جون على سيارة فلابد ان احصل على مثلها حتما) كما يقول المثل الامريكي. اما العواطف القومية: وفي بلد كان تشيده (المانيا فوق الجميع) , فانها تنهار امام وقائع الاقتصاد (وسوف تبقى عقلية الشرق والغرب مسيطرة حتى بعد مائة عام) .
والملحمة بدأت عندما قرر العامل الفني وزوجته ان يهربا الى برلين الغربية, فزما حقيبة واحدة, وتظاهرا انهما في طريقهما لقضاء اجازة في مدينة براغ في تشيكوسلوفاكيا, كان لديهما شقة مؤقتة في برلين الشرقية, ولكنهما قررا ان يتركا كل شيء يمكن ان يثير الشبهات بانهما يغادران في رحلة لا عودة عنها, تقول سيلفيا, وعمرها 40 عاما: (كانت المسألة هي حرية الاختيار, لو كنا نملك حرية ان نختار, ان تشتري ما نريده وان نسافر حيث نشاء... لم يكن هذا ليحدث ابدا, لم يكن هناك سبب...) , وهكذا انطلق الزوجان في رحلة قطعا خلالها الاف الكيلومترات, بالقطارات والطائرات, لينتهيا في برلين القريبة على بعد اقل من 16 كيلومتراً من منزلهما في برلين الشرقية, يقول روبرت (انا في نهاية المطاف... برليني) . منزل وحديقة وسيارة وعلى مدى عشر سنوات كبرت العائلة, وحققت الحلم الكبير للمجتمع الرأسمالي: منزل مع حديقة وسيارة ومدارس يذهب اليها الاطفال في حي نظيف. تقول سيلفيا (لم نكن نملك أوهاماً كنا نعرف ان علينا ان نعمل وان نعتمد على انفسنا وان نقف على اقدامنا وحدنا, ولم نكن ننتظر اية مساعدة من الدولة) وبعد انهيار السور عاد كثير من اهل برلين الشرقية الى منازلهم واعمالهم السابقة, فقد صارت المانيا موحدة وحرية السفر مضمونة للجميع, ولكن عائلة جوكيش لم تكن بين العائدين, وكان روبرت يقبل كل ما يعرض عليه من عمل, بدأ يبيع السجاد, ولكن بعد عدة اشهر, اعلنت شركة صناعية كبرى انها تحتاج الى كل ما يتوفر لدى روبرت من تعليم وخبرة وحصل روبرت على الوظيفة, كان الراتب يصل الى حوالي 2500 دولار شهريا, وهو الراتب نفسه الذي يتقاضاه العامل الغربي, ولم يكن يحدث هذا دائما, فالعادة جرت ان يحصل الشرقي على فتات مما يحصل عليه الغربي, ولكن ذلك كان في العام 1990, تلك كانت فرصة العمر وقد اقتنصها, كان يعرف انه سوف يستمر في عمله الى ان يتقاعد, كان هذا ما يحدث في المانيا الشرقية. ولكنه فجأة وفي العام 1993 اكتشف انه لم يعد يملك وظيفة, فالشركة باعت القسم الذي يعمل فيه, والمشتري قرر ترشيد الادارة فاستغنى عن معظم الفنيين, وكان روبرت من بينهم, ومنذ ذلك الوقت يمضي روبرت من الوقت في البحث عن عمل اكثر مما يمضي في اي عمل يجده. (اننا نعيش على المساعدات الحكومية, نقبض حوالي 1000 دولار في الشهر, ما يكفي فقط لاطعامنا, ودفع بدل ايجار الشقة, والاولاد يستخدمون المواصلات العامة في الذهاب الى مدارسهم) تقول سيلفيا, وتضيف: (ما يأتي بسهولة... يذهب بسهولة) ويقول روبرت: (لم اعد اتمكن من دفع الاقساط, بعت المنزل والسيارة..) . اعادة تأهيل ومع ذلك فان العائلة الشرقية لا تستسلم بسهولة, يروي روبرت: قالوا لي في مركز التوظيف انني احتاج الى اعادة تأهيل علمي, وافقت وبدأت دورات استمرت ثلاث سنوات, وتخرجت مجددا مليئا بالتوقعات, لقد صرت احمل مواصفات كل ما يطلبه سوق العمل, المهارة والخبرة واعادة التأهيل, ولكن شيئا من هذا لم يحدث, مازلت عاطلا عن العمل. يتوقف لحظة ثم يضيف: لم أيأس, عزمت على تغيير تخصصي, انني مولع بالكمبيوتر, استخدمه دائما واحب ان أبحث فيه, قلت لمركز التوظيف انني اريد ان اتخصص في الكمبيوتر, رفض المركز الطلب, فقد جاء متأخرا بالنسبة لسني, مع اني لم اكن قد بلغت الاربعين بعد, قلت: ولكنني بحاجة الى عمل, اجابوا: سوف ندخلك دورة جديدة, تؤهلك لان تعمل مشرفا على عمال تركيب وصيانة اجهزة التدفئة.. ووافقت, كان هذا يعني ان اشرف على اشخاص لم استطع ان اجد فرصة للعمل مثلهم وقبلت, وانهيت الدورة ولكنني بقيت من دون عمل.. (اتعلم انهم يطلبون عاملا لا يزيد عمره على 25 سنة ولكنه يحمل خبرة 35 سنة) يقولها ضاحكا وتضحك معه زوجته. ... ولكنك لا تملك تقول سيلفيا: الاشياء حولنا هي نفسها التي كنا نشاهدها على شاشة التلفزيون, كنا في برلين الشرقية نلتقط الشبكات الغربية, وكنا نشاهد الاعلانات, وحياة الناس هنا.. لا شيء تغير, تشاهد الاشياء ولكنك لا تستطيع ان تشتريها فانت لا تملك ثمنها.. بل الامر الان اكثر سوءا. وتضيف: ربما كان من الافضل ان تبقى الالمانيتان منفصلتين, اعني ان لا تكون المانيا الشرقية شيوعية بل ان يملك اهلها حرية الاختيار, واذكر في طفولتي انني كنت مغرمة بنوع من الشوكولاتة.. ففتشت عنه وحاولت ان اجده, ولكن قيل ان المصنع اقفل.. بالطبع كان لابد ان يقفل, فقد اندفعنا جميعا لشراء كل ما هو غربي, ولو اننا قررنا ان نشتري من المصانع الشرقية ربما كانت لاتزال قائمة. الشرق لم يتغير وتبلغ هذه الأوديسة ذروتها عندما يروي الزوجان كيف انهما عزما, بعد طول تخطيط وعهد للنفقات على قضاء اجازة في احد منتجعات المانيا الشرقية, تقول سيلفيا (وصلنا المنتجع, اعطونا غرفة للاقامة بعد ان دفعنا, دخلنا الغرفة وشعرت بالفزع, كانت الاسرة نفسها, والاثاث ذاته منذ العهد الشيوعي, حيث كانت الاسرة البروليتارية تقضي اجازتها, قلت اننا عدنا الى ذلك العصر, لا شيء تغير... شعرت بالرعب, وبعد ليلة واحدة, انطلقنا عائدين) . ... ومازالت عائلة جوكيش تقيم اليوم في شقتها المتواضعة في برلين الشرقية: لا سهرات في الخارج لا مطاعم, لا رحلات, لا سيارة, لا عمل, يقول روبرت: (اشعر انني احلت الى التقاعد) . قاموس العصر ولعل حياة هذه العائلة تلخص عصرا بكامله يكشف عن قاموس جديد, فالاعلان التلفزيوني يقوم بالمهمة التي كانت تقوم بها الدعوات الايديولوجية في مطلع هذا القرن, انه لا يتحدث عن العقائد رأسمالية كانت ام اشتراكية, بل عن الاستهلاك والحياة على الطريقة الامريكية, وفي المجتمع الاستهلاكي يغيب التضامن الطبقي لتأخذ مكانة المناقشة في نزعة الاستهلاك, و(اذا حصل جون على سيارة فلابد ان احصل على مثلها حتما) كما يقول المثل الامريكي. اما العواطف القومية: وفي بلد كان تشيده (المانيا فوق الجميع) , فانها تنهار امام وقائع الاقتصاد (وسوف تبقى عقلية الشرق والغرب مسيطرة حتى بعد مائة عام) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق