«أطلقنا الصواريخ الثلاثة وانطلقنا مسرعين، كل واحد في اتجاه. سعيد حمامي كان الأسرع في الوصول الى الفندق، ثم تبعه أحمد وكنت آخر الواصلين. تحلقنا حول جهازي «الترانزستور»، أنا وسعيد فتحنا على إذاعة «بي.بي..سي»، أما أحمد، وكان يتقن العبرية، فقد فتح على إذاعة تل ابيب. كانت قلوبنا تخفق بدوي يكاد يصل الى ردهة الفندق، وكان السؤال يتدحرج في حناجرنا مثل قنبلة موقوتة: هل أصابت الصواريخ مستودعات الوقود في ميناء ايلات؟ مرت ساعة حسبناها دهورا قبل أن يخبط أحمد على الطاولة ويهمس بصوت مختنق: «يقول ناطق عسكري اسرائيلي إن ثلاثة صواريخ سقطت قرب ميناء العقبة الأردني ولعل الإرهابيين الذين أطلقوها كانوا يستهدفون ميناء ايلات». ولبرهة ساد وجوم ثقيل قطعه سعيد بحدة: «هذا كذب، الأحداثيات لا تكذب وقد التزمناها بدقة».. ولكن قبل أن ينهي سعيد جملته كان صوت المذيع في محطة «بي.بي.سي» يعلن ببرودة، نقلا عن ناطق عسكري أردني: «سقطت ثلاثة صواريخ في خليج العقبة، اثنان منها سقطا في البحر والثالث أصاب حظيرة للدواجن ولم تقع أية إصابات بشرية». يضحك مصطفى وهو يضيف «تمنيت في تللك اللحظة لو أن تلك الدواجن على الأقل كانت عبرية». الصديق الراحل مصطفى الحسيني لم يكن يفصل رأسه عن جسده. يستخدم الإثنين معا حتى الثمالة. رفض أن يتعلم قيادة السيارة، وكان يقطع شوارع القاهرة وعمان وبيروت ولندن وواشنطن، وكلها بلدان عمل وحارب وعاش فيها، مشيا على قدميه. وعندما اختار أن يعيش في لبنان، سكن في رأس الجبل في عاليه، وكان في عز الشتاء ينحدر كيلومترات كي يصل الى الساحة ومنها يستقل التاكسي الى بيروت.. فلسطين كانت قلما وبندقية، والمقاومة فكرا وسلوكا، ولم يكن النضال عبوسا ولا هرولة الى الشهادة، بل عشقا وفرحا يرتحل ما بين عمر الخيام وتشي غيفارا...
«اسمع. كان غيفارا يزور جامعة القاهرة ويدخل في نقاش ثوري مع الطلاب، عندما مرت أمامه مجموعة من الطالبات، أوقف النقاش وتابع الفتيات بنظرات تفيض بالإعجاب. وفاجأه أحد الطلاب سائلا: ما رأيك في الحب؟ فرد غيفارا على الفور: من يحب جيدا يقاتل جيدا»... يرويها مصطفى وهو يحزم حقائبه ليعانق حبيبة غادرت الى الولايات المتحدة.
أن تجمعك الأقدار مع مصطفى في عواصم الأرض من بيروت الى لندن الى واشنطن ثم عودة الى بيروت، يعني أن تكتشف الجرأة عندما تتحول قاعدة لا استثناء. في بيروت، وعندما كان الراحل ياسر عرفات يظللها بكامل قامته، اتصل «ابو الهول» غاضبا: «الأخ أبو عمار عاتب عليك. أنت لا تكف عن انتقاده. يريدك أن تحضر الى الفاكهاني فورا». وكانت مكالمة من هذا النوع تكشف في تلك الأيام أن «المطلوب» قد يتساوى مع «المفقود». ورد مصطفى على الفور: «قل لمعلمك إنه اذا أراد أن يقابلني فهو يعرف عنواني» وأقفل الخط.
في واشنطن، كنا في مدينة «اتلانتيك سيتي»، وهي عاصمة القمار على الساحل الشرقي من الولايات المتحدة، «ابو صطيف» لم يقامر يوما، إلا بحياته ربما، وكان يفضل الاستماع الى فرقة «الجاز» في الكازينو بعد المرور على عدد من المقاهي التي تقدم «الفودكا» في كؤوس صغيرة تفرغ بجرعة واحدة، وكلما انتهينا من كأس كان مصطفى يفك زر قميصه العلوي ويلقي بالكأس الفارغة داخله فتتدحرج برفق الى خاصرته وتستقر عند الحزام. وعندما وصلنا الى فرقة «الجاز»، اختار مصطفى طاولة على»البيست» مباشرة واستغرق في حال من النشوة الى أن أنهت الفرقة أحد المقاطع الموسيقية، فرفع يديه وأخذ يصفق للموسيقيين بحماسة ظاهرة. قال لقائد الفرقة وهو يرسم أوسع ابتسامة اعتذار على وجهه: «أنت تعرف انهم لا يتقاضون ثمن المشروب فقط» وبعد مغادرتنا تساءل مازحا: «هل تعتقد أن آدم سميث كان يفكر بنا عندما أطلق عبارته الشهيرة: دعه يشرب دعه يمر»؟
أما مصطفى الصحافي فهناك آلاف المقالات بالاضافة الى الكتب تحكي عنه، ولكن ما لا تحكيه هو أن كل مقال كان أقرب الى صخرة سيزيف في أميركا. كان يكتب صفحة أسبوعبة لجريدة «السفير» تحت عنوان «في اللغة والسياسة»، وكانت هذه الصفحة تستغرق الأسبوع بكامله: نقاش مع نعوم تشومسكي في مقهى ومكتبة «ديبون سيركل» وثلاثة كتب على الأقل يشتريها من المكتبة.. عشرات الحوارات والمكالمات الهاتفية مع مسؤولين وأكاديميين عرب وأميركيين ثم ثلاث صحف يومية يحرثها حرثا. وعندما كان ينتقل للكتابة أخيرا كان ينتهي خلال ساعة يمسح بعدها قطرات من العرق تتساقط بغزارة من جبينه. ولم يتوقف سيزيف يوما عن حمل الصخرة.
في العام الماضي، وفي ضيعتنا الجبلية المطلة على البحر، كنا نغني: يا بو صطيف... يا بو صطيف، انت الشتي ... ونحنا الصيف. وكان يزغرد بفرح: «أربعة فصول لا تكفيني وتريد أن تحبسني في فصل واحد؟». وقد صدق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق